زحف نحو فلسطين.. ولكن إسرائيل لا ترى

TT

احتفلت إسرائيل أمس الأحد بذكرى مرور 63 عاما على تأسيسها، وسط أجواء تستدعي منها الدرس العميق. فهي أجواء تنبئ بتحولات تمس مستقبلها، وهي تحولات يتنبه لها بعض الإسرائيليين من الباحثين والسياسيين والعسكريين، وسط مناخ عام يحب ألا يرى إلا ما تريده إسرائيل وجمهورها الصهيوني. لذلك وبدلا من التوجه نحو خطاب إسرائيلي واقعي، يواجهنا دائما خطاب صهيوني متعصب، يطلب ويطلب ويطلب، ويرفض بشدة متناهية أي انتهاج لسياسة وسط يرتاح لها حلفاء إسرائيل في الدول الغربية. ويمكن هنا أن نتوقف عند خمس قضايا لا يمكن للعين البصيرة أن تخطئها..

القضية الأولى: أن ذكرى تأسيس دولة إسرائيل، هي في الحقيقة والواقع، ذكرى «النكبة» الفلسطينية، وقد تميزت هذا العام ولأول مرة، بقرار شعبي فلسطيني وعربي، بأن يتم إحياء هذه الذكرى بالزحف نحو حدود فلسطين، وبرفع شعار أساسي هو شعار العودة إلى أرض فلسطين. لقد حدث الزحف في لبنان وفي الأردن وفي مصر، وأسهم فيه اللبنانيون والأردنيون والمصريون أكثر من الفلسطينيين، وهو أمر يؤكد العمق العربي للقضية الفلسطينية، كما يؤكد أن قضية الزحف، المدعوم بحق العودة إلى الوطن، سيتواصل عاما بعد آخر، وربما تتطور أيضا وسائل التعبير عنه، وبذلك تصبح قضية إحياء ذكرى النكبة عملا يتجاوز المهرجانات والخطابات. ولا شك في أن إسرائيل التي عبرت عن قلقها من هذه الظاهرة الجديدة، ستقلق منها أكثر في السنوات المقبلة.

إن هذا الزحف الرمزي من شأنه أن يذكر الإسرائيليين بأن تعداد الشعب الفلسطيني الآن أصبح يقارب 11 مليون نسمة، وهو رقم يزيد على تعداد الإسرائيليين الذي لا يتجاوز 6 ملايين نسمة بعد 63 عاما من الحشد والتعبئة لتشجيع الهجرة اليهودية الأوروبية إلى فلسطين. وحين يتجند 11 مليون فلسطيني وراء شعار العودة إلى أرض الوطن، ويكونون مدعومين بإسناد عربي كبير ومتحرك وفاعل، فإن الإسرائيليين لن يتأخروا طويلا في اكتشاف ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى مستقبلهم.

يضاف إلى ذلك، أن حشود الزحف الشعبي إلى فلسطين انطلقت من بلدين لهما معاهدة سلام مع دولة إسرائيل، ورغم ذلك فإن الجَيَشَان الشعبي الآتي من هذين البلدين، كان متميزا بكثافته واندفاعه وحماسه. ولعل ما حدث في ميدان التحرير في القاهرة، من حشد مليوني، يرفع فقط علم فلسطين، درس بليغ الدلالة لكل من يسعى إلى قراءة الأحداث بدقة. ولا ننسى هنا أن الجماهير الفلسطينية والأردنية التي احتشدت في منطقة الأغوار، كانت تعلن أيضا رفض شعار «الوطن البديل»، وهو الشعار العنصري الذي يقوم على قاعدة التهجير والترانسفير، وهو أمر يضع الأردن كدولة في مواجهة حادة مع السياسة الإسرائيلية.

القضية الثانية: تتعلق بالحرب والسلاح، إذ كثيرا ما تباهت إسرائيل بقوتها العسكرية في تحديد سياستها، وهي لا تزال تفعل ذلك حتى الآن. وهي كثيرا ما مارست دورها العسكري استنادا إلى الاستراتيجية القائلة بأن إسرائيل تمارس حروبها خارج حدودها، فتبدأ الحرب وتنتهي من دون أن يتأثر الداخل الإسرائيلي بها. لكن التطورات رسمت على أرض الواقع صورة مختلفة للحروب التي تنتظر إسرائيل، فهي منذ حروب عام 2006 عبر لبنان، لم تعد قادرة على ممارسة تلك الاستراتيجية، إذ سقطت نظرية الحرب في أرض الآخرين، وأصبحت الحرب قادرة على أن تشمل الداخل الإسرائيلي. ومن شأن هذا الأمر أن يتكرر في أي حرب جديدة تنشب. ويعود السبب في ذلك إلى تطور إنتاج السلاح في العالم، وهو تطور أنتج صواريخ قادرة على نقل الحرب إلى داخل الميدان الإسرائيلي. كما أن تطور السلاح أنتج صواريخ من نوع آخر قادرة على تدمير دبابة الميركافا الإسرائيلية، التي كانت تعتبر لفترة طويلة دبابات تستعصي على الصواريخ. لقد أدى هذا التطور إلى إلغاء نظرية الأمن الإسرائيلي السائدة، ومن دون القدرة على إيجاد نظرية أمن بديلة فاعلة، حتى إن بعض جنرالات إسرائيل لم يتورعوا عن القول: «يجب أن نتحول إلى مجانين»، وهم يقصدون بذلك أنهم سيكونون مجانين بحيث يلجأون إلى سياسة التدمير الشامل بواسطة الطيران. وهذا ما فعلوه في بيروت عام 2006، وهم يهددون بتطبيقه على نطاق أشمل، ضد لبنان وضد سوريا وضد قطاع غزة، وقد يفعلون ذلك. إنما مع احتمال بروز صواريخ جديدة تحد من فاعلية سلاح الطيران، وهو ما يراقبه الإسرائيليون الآن بدقة، فقد تغير التوازن العسكري في الميدان، بحيث إن الحروب القادمة إذا نشبت، ستكون لها نتائج تختلف عن نتائج الحروب السابقة.

القضية الثالثة: أن إسرائيل تتغير من الداخل، وبطريقة لم تعد مقبولة حتى من قبل حلفائها التاريخيين في أوروبا مثلا. فهي تنحاز يوميا نحو اليمين، ونحو التعصب، ونحو العنصرية، حتى في إطار سياستها الداخلية، لدرجة أن الكنيست الإسرائيلي أصبح منبرا لسن القوانين العنصرية التي يشكو منها كثير من الإسرائيليين، وينبهون إلى خطرها على مستقبلهم. وبسبب هذا التحول في البنية الاجتماعية، أصبح المستوطنون في أراضي الضفة الغربية قوة تهديد لكل حكومة إسرائيلية، حتى إن حديث الحرب الأهلية بات يسمع بين حين وآخر. وقد انعكس هذا الوضع على السياسة الإسرائيلية نفسها، فهي عجزت عن إنجاز حل مع الرئيس محمود عباس المشهود له بالاعتدال الشديد. وحين انفصلت غزة عن الضفة الغربية قال نتنياهو إن عباس ضعيف لا يسيطر على غزة فكيف نوقع معه حلا؟ أما حين قامت مصالحة بين فتح وحماس فقد واصل نتنياهو الموقف نفسه وقال إن حماس إرهابية لا يمكن التفاهم مع عباس بوجودها إلى جانبه. وهذا التلاعب في المواقف والحجج، أثار ويثير حفيظة الدبلوماسية العالمية حتى المؤيد منها لإسرائيل.

إن هذه المواقف الإسرائيلية، على صعيد التغير الداخلي، وعلى صعيد الخطط السياسية، لعبت دورا أساسيا في إحداث تغيير في التأييد الجماهيري الأوروبي لدولة إسرائيل، فبدأنا نشهد في الغرب تحركات شعبية تستنكر سياسة إسرائيل وترفضها، وهو أمر يحدث لأول مرة منذ عام 1948. ولا تجد إسرائيل وسيلة للدفاع سوى أن تطلق على هذه التحركات تهمة العداء للسامية، وهي تهمة توجهها هذه المرة لحلفائها لا لخصومها، وهي لذلك تعبر عن أزمة إسرائيل أكثر مما تعبر عن قوتها الإعلامية.

القضية الرابعة: تتعلق بالفلسطينيين أصحاب الأرض والوطن، والمقيمين تحت حكم دولة إسرائيل (مليون ونصف المليون نسمة)، والذين تطوروا مع الزمن، وأصبحوا يشكلون قوة شعبية منظمة تقلق إسرائيل، وتعتبرهم خطرا على وجودها، وترفع في وجههم شعار (يهودية دولة إسرائيل)، بما يعنيه هذا الشعار من توجه لطردهم (الترانسفير)، أو تحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية، خلافا لكل ادعاءات إسرائيل الديمقراطية. إن الفلسطينيين فوق أرض الوطن، يرفعون شعار «نحن فلسطينيون.. نحن عرب»، وتكاد هذه الكلمات تثير الذعر داخل إسرائيل، وتفقد الإسرائيليين أعصابهم.

القضية الخامسة: هي القضية الشائعة والدائمة، والتي تخص الموقف السياسي الأميركي الذي يدعم إسرائيل بشكل مطلق، والذي يستند بدوره إلى نمو «الأصولية المسيحية» التي تلتقي مع الصهيونية وتدعمها آيديولوجيا.

وفي ظل هذه الأزمة التي أشرنا إلى بعض عناصرها، يلجأ الإسرائيليون إلى رفع درجة الخطاب التهديدي، وقد عبر عن ذلك نتنياهو بجلاء في خطاب إحياء ذكرى قتلى حرب تأسيس إسرائيل فقال «سنضربكم بكل ما نملك من قوة وعظمة.. سنضربكم».

هل تعبر هذه الكلمات عن القوة أم عن الخوف؟ الاحتمالان قائمان.