جاهزية فتح في أمر الرئاسة

TT

من الأمور التي أتفق فيها مع الرئيس محمود عباس، إصراره على عدم الترشح ثانية لمنصب الرئيس في الانتخابات القادمة.. التي يفترض أن تجري بعد أحد عشر شهرا وبضعة أيام من الآن.

ولو سألني الرئيس رأيا في هذا الأمر، لشجعته على موقفه، ليس لأنني أرى في الأمر زهدا في سلطة هو أبعد ما يكون عنها، وإنما لأن المشروع السياسي الذي أتى به ومن أجله مني بفشل ذريع. ولسوء حظ الرئيس عباس أنه ومثلما اقترن اسمه بنجاح «أوسلو» فها هو يقترن بفشلها.. مع أنه لم يكن المسؤول الوحيد عن النجاح مثلما هو ليس الوحيد الذي يُسأل عن فشل مشروع ضخم كهذا.

إلا أن للأقدار لعبتها التي لا تقاوم، وقدر الرئيس عباس أن يستمر حاملا لقب مهندس أوسلو، رغم انهيار البناء وحاجة سكانه القتلى والجرحى تحت ركامه لبناء جديد، قد يكون اسمه هذه المرة آمال نيويورك الواهية، حيث الجمعية العامة للأمم المتحدة... ومئات الأصوات المؤيدة والمتعاطفة مع ولادة دولة فلسطينية..!

إنه سوء الحظ قبل أي عوامل موضوعية وذاتية كثيرة تحدد صلة الرئيس عباس بالنجاح والفشل، ففي أمر النجاح كان عرفات عرابا حقيقيا لـ«أوسلو»، ومع أنه لم يكن متحمسا للعملية من أساسها، وكان مليئا بالشكوك في أمر نجاحها، فإنه هو من أذن ببدئها اضطراريا، وهو من وضع النقطة الأخيرة وراء آخر سطر من اتفاقاتها وتفاهماتها، إلا أن سوء حظ عباس يكمن في اللقب الذي أجمع عليه العالم «مهندس أوسلو»، وإذا كان الأمر متعلقا بأداء المفاوضات فقد كان هو المهندس الفعلي، وصاحب المبادرات التي أدت إلى النجاح.

غير أن عباس وهو يرى الانهيار المتسارع لبقايا «أوسلو»، والارتداد المروع للخلاصات المأمولة إلى عكسها، يدرك من أعماقه أنه ليس القائد لاتجاه وعكسه مثلما كان عرفات؛ ذلك أن عباس بتكوينه الفكري والنفسي والسياسي، هو رجل التسوية والمفاوضات، وليس هو أبدا من يناسب أي خيار آخر غير هذا الخيار، والرجل قال ذلك صراحة ولا يكف عن ترداد موقفه هذا في كل زمان ومكان.. ولا أخاله مؤمنا تماما بأن التصويت في الأمم المتحدة هو البديل النموذجي عن «أوسلو»، لأننا حين ذهبنا إلى أوسلو كانت الأمم المتحدة في أفضل حالاتها بالنسبة للفلسطينيين وقضيتهم، حتى إن كثيرين من قادة إسرائيل وصفوها بالقاعدة الفلسطينية بعد أن أصبح غير منطقي مواصلة وصفها بالقاعدة السوفياتية بعد انهيار وتلاشي الدولة العظمى.

إن فشل «أوسلو» لن يعوض بنجاح التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة إذا ما تم فعلا، ذلك أن فشل الصيغة العملية لا يعالج بافتراض نجاح مضمون للصيغة البديلة، وحسبنا أن أميركا وإسرائيل تعارضان من حيث المبدأ فكرة الحل عن طريق الأمم المتحدة.. فقضيتنا معهما وعلى نحو ما ليست مع أحد غيرهما.

لذا.. فإن خلاصة مرحلة «أوسلو» شئنا أم أبينا هي ما نراه الآن على الأرض، وهي خلاصة مريرة ومحاطة بالخطر من كل جانب.

إن مقياس النجاح والفشل هنا هو تحقيق الوعد، وليس إثبات الوطنية والتمسك بالثوابت، فلو كان الأمر هكذا فلماذا إذن الثورة الفلسطينية؟.. ولماذا إذن الحروب الدموية التي خضناها منذ اليوم الأول لولادة القضية الفلسطينية حتى الآن؟

إن الشعب يريد رؤية دولة على الأرض، ولا يريد سندات ملكية ورقية تصلح لتبييض صورة الفشل، ولا تصلح إطلاقا لتجسيد كيان حقيقي.

الرئيس محمود عباس لم يطرح نفسه مثل عرفات قائد ثورة شاملة يكون الحل السياسي أحد خياراتها وإحدى دوائر العمل فيها، بل إنه بالجملة وبالتفصيل قائد مشروع سياسي تفاوضي استنفد، ولا مجال للدخول في دورة سياسية طويلة الأمد عبر مشروع بديل، إذ لا مناص من القيام بما يلزم، أي فتح الباب لقائد آخر، ربما تتوافر لديه إمكانات لا نعرفها لإنجاح خيار القتال أو الحل السياسي!

إن قيادة الشعب الفلسطيني ليست قيادة دولة مثل سويسرا يعرف كل رئيس ووزير وحتى مواطن فيها مكانه البديهي في بنائها ومن يخلفه وكيف. وهنا ينبغي التحدث عن مرحلة ما بعد عباس المفترض أن تنتهي خلال سنة.

هل فتح جاهزة؟.. الجواب الإعلامي الذي يمكن أن يسمع في مقابلة تلفزيونية أو عبر بيان لا بد أن يقول نعم، وحين يستتبع السؤال بسؤال حتمي هو: كيف؟.. سيقال إن مؤسساتنا كفيلة بمعالجة الأمر على أكمل وجه!!

إنني شخصيا، ومعي كثيرون وربما يكونون الأغلبية، لا نصدق هذا النوع من الأجوبة. قد تجتمع مؤسسات فتح وتنتخب مرشحا.. فهل يا ترى هذا الذي نسميه خيار فتح سيكون خيار الشعب في بلد تُعرف علاقة فتح فيه بصناديق الاقتراع، ونعرف كيف يبلغ الصراع الداخلي فيها حدة تفوق حدة أي صراع مع أي طرف آخر؟

إن التراتبية التنظيمية لو اعتمدت لاختيار مرشح فتح في الانتخابات القادمة ستكون هي الوصفة الناجعة للفشل، ولنجاح أي منافس جاهز لاصطياد السمك من بحر فتح غير المحروس. إن الفتحاويين يريدون معرفة مدى الجاهزية، وليعلم الجميع أن الأقوال المفخمة مثل اللجوء إلى تاريخ الحركة وقدراتها لن تنفع، فقد جربت حين خسرت سلطة صنعتها ومجلسا تشريعيا أسسته، ومرحلة سياسية هي من صنعها بالجملة والتفصيل، فهل يستفاد من الدرس أم أن عبارة «خليك يا أبو مازن لا تتركنا» هي الحل؟

يبدو أن أبو مازن في غير وارد الوقوع في كمين هذه الجملة، إلا أنه يجب أن يعمل ليل نهار كي لا يحقق الفراغ الحتمي كارثة لم يقو على تحقيقها أعتى الأعداء، وساعتها لن نتوقف عند خسارة الماضي، بل والحاضر أيضا، فما بالكم بالمستقبل الذي يصر كثيرون منا على ألا يفكروا فيه؟