«مثلث القمع» العربي.. في أمة منكوبة

TT

وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ

(طرفة بن العبد)

قبل ما حدث في نهاية الأسبوع على الحدود وخطوط الهدنة الفاصلة بين أراضي فلسطين المحتلة مع لبنان وسوريا، وكذلك أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، بمناسبة الذكرى الـ63 لنكبة احتلال فلسطين، كان العالم العربي منشغلا بنوعية أخرى من «النكبات».

فباسم «الشرعية الدستورية» يصر الرئيس اليمني علي عبد الله صالح على التمسك بمنصب الرئاسة في وجه اعتراض ملايين اليمنيين. ثم يعلن بالصوت الملآن أنه سيواجه «التحدي بالتحدي»، مع أنه يعلم جيدا أن ليس لمعارضيه الكثر في الساحة اليمنية ما لديه من قوات «الحرس الجمهوري» و«القوات الخاصة» التي يقودها ابنه العميد أحمد، أو قوات «الأمن المركزي» التي يقودها العميد يحيى ابن أخيه. وينسى أو يتناسى كيف جاء أصلا إلى موقع الرئاسة.

وباسم «الثورة» و«الملايين» المعادية لـ«الصليبية» يواصل العقيد معمر القذافي هدر دماء أبناء الشعب الليبي ويوفر كل مستلزمات التدخل الأجنبي، مستنهضا أبشع النوازع القبلية والعشائرية ومسهلا - بفضل كتائب أبنائه الميامين - مع مرور كل يوم، نكبتي الحرب الأهلية والاحتلال الأجنبي الواقعي.

وباسم «مكافحة الأصولية» و«السلفية» و«الإرهاب» يستمر الحكم في دمشق بأداء «رقصة الموت» داخل سوريا وفي أراضي جيرانها الأقربين، مورطا الأقليات التي يدعي حمايتها في أزمة مقلقة بل مفزعة حقا.

إنه «ثلاثي» يواجه صعوبة في استيعاب فكرة حق المواطن في المناقشة والاعتراض وصولا إلى التغيير السلمي وتداول السلطة كما يحصل في أي مجتمع متحضر. ويستنسخ عمليا استخفاف الكيان الإسرائيلي، طيلة الـ63 سنة، بإنسانية ملايين الفلسطينيين وحقوقهم، ولكن مع فارق أساسي هو أن آلة الاغتصاب والقمع الإسرائيلية تمارس عدوانها على من تعتبرهم أعداء وجود، بينما يمارس «الثلاثي» العربي ما يمارسه ضد أهله وأبناء وطنه.

المعارضة اليمنية اعتبرت بالأمس «المبادرة الخليجية» ميتة، ورأت في كلام الرئيس صالح «إعلان حرب أهلية»، فقررت إعلان العصيان المدني. والحقيقة، أن أحدا لا يستطيع لوم المعارضة على يأسها من مناورات الرئيس، والتفافه على قادة دول مجلس التعاون الخليجي. غير أن العصيان المدني مع حكم اختار فعليا طريق الحرب الأهلية، وفي ظل استبعاد انقسام الجيش، ينطوي القرار على مجازفة كبيرة. فلا الرئيس يبدو مقتنعا بأن في صميم واجباته الأخلاقية حقن الدماء والإبقاء على البقية الباقية من المؤسسات، ولا ناصحوه ومعاونوه المدنيون والعسكريون يتحلون بالقدر الكافي من الشجاعة والمسؤولية لاعتماد التجربتين التونسية والمصرية بالوقوف مع الشعب بدلا من التجربة القذافية.

أما عن التجربة القذافية، فإننا نرى اليوم كيف تسعى بعض الدول الغربية إلى دعم الثورة الليبية بالسلاح، وكيف يعرض بعضها الآخر الاعتراف بـ«المجلس الوطني»، وكيف تأخر المجتمع الدولي حتى الأمس في توصيل رسالة واضحة لـ«اللانظام» الليبي بأن وقته انتهى. التأخر حصل ليس فقط لأن القذافي حالة نفسية خاصة - وهو كذلك حقا -، بل لأن ثمة رسائل متناقضة ومتضاربة كانت تصل إلى مجمع باب العزيزية في طرابلس. وهو ما كان من شأنه تمكين «ملك ملوك أفريقيا» من لعب ورقته الأخطر التي هي استنهاض العصبية القبلية ضد من يصفهم اليوم بـ«عملاء الصليبيين»... بعدما كان اتهمهم قبل أسابيع معدودة بأنهم من «إرهابيي القاعدة» الذين لا يستطيع غيره إنقاذ إسرائيل من شرورهم.

ونصل إلى الوضع السوري، الذي تقول واشنطن وباريس ولندن - بل حتى أنقره - إنه تأخر كثيرا في التجاوب المنشود مع نبض الشارع المطالب بالتغيير. إن أحدا لا يستطيع أن يعطي نظاما، استمر في السلطة أكثر من 40 سنة، دروسا في السياسة... بفضل إتقانه لعبة التوازنات وتسليف المواقف وقبض أثمانها. لكن، يبدو أن هذا النظام - أو تحديدا الجيل الثاني في النظام - نسي لبرهة أن لكل موقف ثمنا، وأن الأثمان تتغير وفق وضع السوق، وما كان ثمنا مقبولا لخدمة معينة بالأمس ربما لا يعود كذلك اليوم.

من ناحية أخرى، بخلاف الجيل الأول الذي حكم سوريا بين 1970 و2000، يرى متابعون أن جيل اليوم سلم زمام المبادرة في علاقاته الاستراتيجية لإيران. صحيح أن الرئيس الراحل حافظ الأسد كان الزعيم العربي الوحيد الذي أيد إيران علانية في حربها مع العراق (1980 – 1988)، قافزا فوق رابطتي «البعثية» والعروبة. وطبعا امتد التعاون الاستراتيجي السوري - الإيراني إلى لبنان. غير أن دمشق في عهد الأسد الأب أبقت القرار الحاسم، ولو ظاهريا، بيدها وليس بيد طهران.

هذا الوضع تغير منذ مقتل باسل الأسد عام 1994، وانتقال «الملف اللبناني» ممن كان يعرف بـ«الحرس القديم» إلى يد الرئيس الحالي الدكتور بشار، قبل تسلم الأخير مهام الرئاسة عام 2000. وها هي المبادرة في لبنان، الذي طالما اعتبرته دمشق «حديقتها الخلفية» أو خاصرتها الرخوة، باتت في يد طهران ممثلة بحزب الله. وإذا كان ثمة دليل على تولي طهران تسيير الأمور، فأمامنا الأزمة الراهنة في عملية تشكيل الحكومة اللبنانية. ثم «تذكر» دمشق - لأول مرة منذ 1973 - اختراق خط وقف إطلاق النار في الجولان، بالتزامن مع ما حصل عند مارون الرأس في جنوب لبنان، حيث السلطة الفعلية لحزب الله.

اليوم عندما يتكلم النظام السوري عن فتحه حوارا مع مناوئيه في الداخل، المطلوب هو إحداث تغيير حقيقي وجدي. ذلك أن مسألة التصدي لـ«الأصولية» الإسلامية والتعصب الديني يصعب هضمها في الشارع السوري عندما يشاهد المواطن كيف يدعم نظامه «أصولية سنية» في غزة ممنوعة في سورية، و«أصولية» من لون آخر في لبنان. وعندما يدعي حماية الأقليات قد يكون من الحكمة الكف عن زج هذه الأقليات وتوريطها في عداوات هي بغنى عنها. وعندما يتكلم عن الديمقراطية من المفيد جدا، له وللشعب السوري كله، أن يعني ما يقوله على الأرض.

وأخيرا، عندما ينوي تحرير الأرض في فلسطين والجولان... عليه إطلاق تعبئة وطنية وقومية شاملة لا تكتفي بعرض رمزي، في يوم واحد من العام، لتنفيس الاحتقانات الداخلية في دمشق وبيروت وطهران، قد ينتهي بإهداء بنيامين نتنياهو «ذخيرة سياسية» ثمينة... تساعده إسرائيليا وأميركيا.