ما بعد سقوط أسامة بن لادن!

TT

نشرت مجلة «التايم» الأميركية صورة أسامة بن لادن وعليها باللون الأحمر علامة «X»، التي تعني أنه انتهى وتم التخلص منه إلى الأبد. وكانت آخر مرة استخدمت الصحيفة هذه الوسيلة في التعبير عندما انتهت الحرب العالمية الثانية، ومن ثم وضعت العلامة نفسها على وجه «هتلر» بعد أن انتحر في ملجئه الشهير أسفل العاصمة الألمانية برلين. لكن الاستخدام الواحد لوسيلة التعبير يسجل مفارقة كبرى حينما حلت المساواة بين حربين: الحرب ضد النازية، والحرب ضد الإرهاب.

الحرب الأولى كانت مجرد حرب أخرى استعرت بين كيانات سياسية وأمم وممالك حول الفوائد الاقتصادية ومجالات النفوذ. لم يكن في الحرب العالمية الثانية أمر لم يحدث من قبل؛ ربما كان القتل الجماعي أكثر؛ لأن تكنولوجيا القتل تطورت كثيرا عبر العصور، وربما أيضا لأن التصميم والآيديولوجية باتا يجعلان القتل الجماعي فضيلة، ولم تجد الولايات المتحدة مشكلة أخلاقية في استخدام القنابل الذرية ضد اليابان بعد أن قضت على هتلر.

الحرب الثانية بالتأكيد مختلفة، هنا اختفت الدول والأمم، اللهم إلا إذا تجاوزنا التواطؤ الممكن حدوثه بين المخابرات الباكستانية وحركة طالبان وجماعات من الإرهابيين، من بينهم كان أسامة بن لادن، الذي عاش تحت سمع وبصر السلطات الباكستانية. ومع ذلك فإن الحرب ضد بن لادن لم تكن حربا بين الولايات المتحدة وحلفائها ضد باكستان، وما نعرفه أن كليهما يعتبر الآخر حليفا بل واستراتيجيا أيضا؛ لأن الحرب لا يتم تحديدها بالمكان الذي توجد فيه بقدر ما يعرفها الدافع الذي يأخذها إلى نقطة الصدام. وعلى مدى الـ20 عاما الأخيرة، خاصة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) فإن الحرب ضد تنظيم القاعدة والتنظيمات الإرهابية الأخرى قد صارت حربا ضد الإرهاب، واختصارها الحرب ضد أسامة بن لادن.

السؤال الآن: هل كان مقتل بن لادن مماثلا لمقتل «هتلر»، حيث كان نهاية للنازية والفاشية حتى لو بقيت أحزاب لا تزال ترى في أفكارهما خيرا؛ بحيث يعتبر سقوط الأمير والمجاهد والشيخ نهاية قصة تاريخية وآن الأوان لفتح قصة أخرى؟

هنا نجد مدرستين في التفكير، الأولى: أن مقتل أسامة بن لادن كان نوعا من تحصيل الحاصل؛ فتنظيم القاعدة كان يعاني خللا وضعفا هيكليين، حتى إن المخابرات المركزية الأميركية نجحت في اصطياد قياداته الواحد بعد الآخر، وكان آخرهم أسامة بن لادن. هذا الخلل نجم عن تراجع التأييد للتنظيم، خاصة بعد اغتيال بي نظير بوتو في باكستان، وجنوح جماعات داخل حركة طالبان في أفغانستان لكي تتباعد المسافة بينها وبين تنظيم القاعدة. لكن أهم ما جاء كنهاية للتنظيم الساعي لتغيير العالم العربي والإسلامي وحتى العالم كله أن الشباب المسلم لم يعد يقبل أساليب أسامة بن لادن الجاهلة والمتعصبة التي لم تحرر لا بلدا عربيا ولا إسلاميا؛ ومن ثم فإنه وجد في المظاهرات «السلمية» والمليونية الوسيلة الأنجع في التغيير، وهو ما حدث بالفعل خلال الشهور الأخيرة. وببساطة فإن آيديولوجية بن لادن لم يعد لها سوق داخل دوائر التجنيد التقليدية لها، وهي تجد بديلا في صناديق الانتخابات.

لكن على عكس ذلك تماما، فإن قتل أسامة بن لادن واعتباره نهاية لعصر الإرهاب ليس فقط غير دقيق أو مبالغا فيه، لكنه غير صحيح بالمرة. فما جاء بأسامة بن لادن لكي يقود حركة عالمية مضادة للعالم الغربي، وفكر الحداثة المعاصر في العالم العربي والإسلامي لم يكن راجعا لشخصه، أو حتى فقط للآيديولوجية التي اعتنقها وجعل كثرة من المسلمين في العالم يقتنعون بها، وإنما لأن هناك تناقضات جوهرية في المصالح بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، في مقدمتها قضية فلسطين، وهناك من ناحية أخرى خلاف مع النخب العربية والإسلامية حول مسار الحياة والسياسة في المجتمعات العربية والإسلامية. هنا فإن القضية كلها تتخلص من طبيعتها الفردية وتصبح كلها قائمة على أسس موضوعية تعود إلى الحيرة التي تعيشها دول وشعوب بين دينها وطبيعة النظم السائدة في العالم، التي تشجع الحداثة والمدنية والفصل بين الدين والدولة والمساواة في المواطنة بين الناس. هنا فإنه لا يوجد ما يدعو إلى الادعاء بانتهاء الحرب ضد الإرهاب؛ لأن أسامة بن لادن أولا كان مريضا بالكلى ولم يعد قائدا فعليا عملياتيا لـ«القاعدة» وكان هناك قادة يديرون العمل بدلا منه. وهناك ثانيا أن فكر «القاعدة» لم يعد صادرا من تنظيمها الأساسي فقط، بل إنه يصدر عن جماعات وجمعيات مختلفة في العراق والشام وشمال أفريقيا، وكلها أعلنت انتماءها للتنظيم حتى من دون أن يطلب منها أحد أن تقوم بهذه الخطوة.

هل «القاعدة» حية أم ميتة؟ وهل كان قتل أسامة بن لادن نهاية لها أم بداية للعيش مرة أخرى من دون وجود الزعيم المؤسس؟ قضية تستحق الترقب والملاحظة والمراقبة لما يجري بالفعل في الساحة العربية.. وربما كانت مجلة «الإيكونوميست» اللندنية هي التي لخصت الموقف كله على غلافها في الأسبوع الماضي عندما وضعت صورة أسامة بن لادن ووضعت عليها عنوانا هو: «والآن.. اقتلوا حلمه». فالقضية لم تعد شخصا كان يعاني داء الكلى ويخرج على الناس من وقت لآخر بتسجيل يقول فيه بعض الكلمات الحماسية، القضية هي أن لهذا الرجل حلما، وأن هذا الحلم لسبب أو لآخر بات قادرا على تحريك العشرات وربما المئات من الشباب لكي يقتلوا – بضم التاء - ويقتلوا - بفتح التاء - في معارك ممتدة بامتداد العالم كله.

لقد تم اغتيال أسامة بن لادن بعد أن كلف الولايات المتحدة قرابة تريليون من الدولارات أو زاد عليها قليلا، شملت حربين في أفغانستان والعراق، وحربا بامتداد العالم كله لا يعلم أحد مداها ونهايتها. لكن التكلفة لم تكن تلك المباشرة والممثلة في خسائر مادية؛ وإنما كانت التكلفة هائلة من ناحية إحباط العولمة، التي ربما تكون قد استمرت، لكن استمرارها أصبحت تكلفته عالية بأكثر مما كان متوقعا. وببساطة فإن أسامة بن لادن ورفاقه نجحوا في إيقاف عجلة التاريخ، أو على الأقل دفعها دفعا إلى التباطؤ، وهو ما أخذ العالم كله إلى أزمة اقتصادية ربما كانت هي الغرض الرئيسي من عملية 11 سبتمبر 2001 وما تلاها من عمليات كان الغرض منها شل الاقتصاد العالمي الذي يعني، في جزء كبير من جوهره، اقتصاد الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وما بعد ذلك من اقتصادات محض تفاصيل. معنى ذلك أن أسامة بن لادن سيظل معنا ولو لفترة مقبلة لا نعرف عنها الكثير، لكن شبح الرجل سيظل مطلا في الأحوال كلها.