هل كانت ثورة على مبارك أم على يوليو؟

TT

لم يحسم المصريون بعد أمرهم وأمر ثورتهم، فهل كانت ثورة على نظام مبارك بفساده وطريقة إدارته للأمور، أم كانت ثورة على حركة يوليو التي قام بها الضباط الأحرار عام 1952 بقيادة جمال عبد الناصر؟ لو كانت الأولى، أي إنها ثورة على مبارك، فلا يمكن تسميتها بالثورة، لأنها بهذا تصبح مسألة تغيير لأسلوب إدارة، أو تعديل لوضع أيام مبارك مع الاحتفاظ بتراث كبت الحريات وكل مؤسسات القهر، إنها ثورة على الفساد وعلى التوريث، وما عدا ذلك فالمصريون سعداء بعد القضاء على فكرة التوريث بأن تعود مصر إلى حكم عبد الناصر أو السادات، ولكن بطريقة الإخوان المسلمين هذه المرة، أو بطريقة تحالف «الإخوان» مع القوى الناصرية ذاتها التي قمعتها في السابق، وعفا الله عما سلف. فهل هذا ما يريده ثوار مصر؟

واضح من عودة محمد حسنين هيكل إلى الساحة السياسية المصرية أننا نعود إلى زمن ثورة يوليو (تموز) وأن الثورة الجديدة هي على مبارك فقط لا لأجل الحرية. ففي حوار طويل وعلى حلقات ولمدة أسبوعين تقريبا، أجراه لبيب السباعي، رئيس مجلس إدارة «الأهرام» الجديد، مع هيكل، وعنوانه «عودة الأهرام إلى رائدها»، يبدو واضحا من العنوان أنه ليس هيكل الذي يعود إلى «الأهرام»، بل «الأهرام» هي التي تعود إليه. بالطبع، الملاحظات على هيكل وحواره كثيرة، ولكني بداية أعجب لقدرات الرجل في استمرارية النجومية السياسية، فلا بد أن يكون محظوظا إلى درجة لافتة. فهيكل منظر الثورة اليوم والداعي إلى تسمية المشير محمد حسين طنطاوي، وزير الدفاع ورئيس المجلس العسكري، تسميته رئيسا لمصر، يعاونه في ذلك مجلس أمناء للدولة وللدستور على طريقة هيكل. هيكل بشحمه ولحمه هو منظر ديكتاتورية عبد الناصر والمروج الأول لأسلوبه في الحكم، سواء أكان انعدام الحريات في الداخل، أم هزائم الخارج من حرب اليمن إلى الهزيمة المرة أمام الإسرائيليين عام 1967. فكيف لمن كان منظر مرحلة تسلطية فاشلة بكل المقاييس، والمؤمن بها لهذه اللحظة أن ينظر لثورة 25 يناير التي تريد أن تدخل مصر إلى نادي العالم الحر؟ طبعا العجب ينتفي إذا كان هناك توافق على أن ثورة 25 يناير لم تكن ضد يوليو بل هي ضد مبارك فقط؟ أي إنها لا تنوي تغيير المنظومة القيمية الحاكمة للمجتمع المصري التي حكمت بثلاث جمهوريات من الخوف، كان على رأسها بالترتيب: جمال عبد الناصر، وأنور السادات، وآخرهم حسني مبارك.

هناك تلميحات كثيرة في الخطاب المصري حتى لمن يدعون أو يسمون أنفسهم مجلس أمناء الثورة أو منسقي تحالفات الثورة، إلى أن عبد الناصر مات فقيرا ولم يترك لنفسه ولأسرته كل هذه الأموال التي تركها مبارك، وفي هذا تلميح إلى أن الثورة لم تكن ثورة على يوليو، «عبد الناصر كان رجل كويس»، هكذا يهمهم البعض. لو كان كلام هيكل عن تسمية طنطاوي رئيسا أو عودة «الأهرام» إلى هيكل مؤشرات، إذن نحن في مرحلة تشبه سيارة المواطن المصري العائد من الخليج والذي ركّب فيها جهازا يقول «احترس.. السيارة ترجع إلى الخلف»، وواضح هنا أنه قريبا سيركِّب جهازا آخر يقول «احترس.. الثورة ترجع إلى الخلف»، أي إن 25 يناير تعود إلى يوليو بأهرامها ورجالاتها ونظامها التسلطي وغياب الحريات، ونفس الشعارات الفشنك السابقة.

طبعا يجب ألا يصادر أحد على آراء الأستاذ هيكل، فله الحق في قول ما يشاء، على الرغم من محدودية المعرفة في ما يقول، فهيكل لم يعرف ولم يعش إلا تحت أنظمة تسلطية، وما عرفه عن الديمقراطيات هو من الزيارات المتكررة للغرب أو من خلال قراءاته، ولكن هذا وحده لا يكفي لفهم عملية التحول من نظام شمولي، وكان نظام يوليو من عبد الناصر حتى مبارك شموليا بامتياز، إلى نظام ديمقراطي. فالأساس في الديمقراطية هو المواطن الفرد الحر. وهيكل ومن حوله ومن يغازلهم لا يؤمنون بالفرد الحر، وربما لم يأتوا لفتح أبواب الحرية، بقدر ما يريدون تركيب باب جديد للوطن من أجل إحكام القفل على هذا السجن الكبير المعروف بمصر ولكن بسجانين جدد.

هيكل وجماعته ينتقدون الثورة بأنها لم تكن لها آيديولوجية واضحة أو قائد واضح، يبحثون عن عبادة الفرد وعبادة الفكرة، ولكن الثورات في عالم ما بعد الحداثة هي ثورات الأفراد. هيكل وجماعته يقلقهم أنه لا يوجد ديكتاتور أو زعيم على قمة السلطة اليوم بل مجلس عسكري، قيادة مشتركة من أكثر من فرد. هذه التعددية مقلقة لعقول تعبد الأفراد، لذا يريدون طنطاوي رئيسا خارج العملية الدستورية، يريدون بدل الفرعون فرعونا جديدا، وواضح أن المجلس العسكري ما زال يقاوم محاولات جره إلى حالة الفرعنة هذه. من حسنات المجلس العسكري تعددية القيادة. نعم المشير طنطاوي رئيس المجلس، ولكنه مجلس قيادة في النهاية وليس مجلس فرد، وفي هذا مقاومة لغواية حكم الفرد التي أطلقها هيكل في تصريحاته.

أتحسر على الحال في مصر، لأن ما يقوله هيكل، لو أخرج من السياق المصري أو ترجم إلى أي لغة حية، سيبدو كلاما عاديا لا يليق بكل الهالة التي أضفتها عليه «الأهرام»، ثم منذ متى تخصص صحيفة حوارا طويلا لرئيس تحريرها الأسبق، وعلى مدار أسابيع وبهذه الاحتفالية. يمكن أن تخصص الصحافة الفرنسية ربما مساحة أقل بقليل للسيد دومينيك ستراوس، رئيس صندوق النقد الدولي، لفضيحته الجنسية في نيويورك، فالفضائح الجنسية أمر يوزع الصحف ويثير نهم العامة للقراءة. ولكن ما المثير في كلام هيكل وهل زاد توزيع «الأهرام» نتيجة لهذا الحوار الطويل العريض، أم إنها الطريقة القديمة ذاتها في أن نحشر في زور الناس ما لا يستسيغون مضغه، أم إن «الأهرام» ضلت طريقها الجديد فراحت تبحث عن هويتها في القديم؟