عن السلفية.. شاغلة الناس والعالم

TT

كيف يمكن أن نقرأ هذا الصخب حول السلفية، دراسة وبحثا، نقدا وهجوما، خارج محاولة فهم تمثلات الدين في المجتمعات الإسلامية؟ هل السلفية مفهوم محدد يمكن الإشارة إلى ملامحه بشكل منهجي بعيدا عن السياق التاريخي وبمنأى عن عوامل المكان / الجغرافيا الثقافية التي تؤثر في طريقة تداول الأفكار أي تحويلها إلى معتقدات معيشة تتنفس هموم الناس واحتياجاتهم وتتحرك بينهم؟

الآن يتم طرح السلفية والهجوم عليها بدوافع سياسية محضة، ويتم استعداء خصوم السلفية من المنافسين على كعكة الخطاب الديني عليها، هذا الهجوم كان يتداول بشكل خافت حيث كانت السلفية تتهم كحديقة خلفية يتم فيها صناعة الإرهاب والعنف الديني، والآن في ظل صعود خطاب الإسلام السياسي الذي يتم التعامل معه كبديل معتدل في مرحلة ما بعد الثورات، في ظل أن السلفية كانت توصم بأنها أكثر الآيديولوجيات الدينية ممانعة لأي تغيير سياسي، في ذات الوقت تتهم السلفية بأنها وراء المحاولات الانقلابية أو خطاب المعارضة في كثير من الدول الإسلامية.

لا يمكن الحديث عن السلفية في عجالة كهذه؛ إلا أن التداول السياسي للسلفية الآن وبهذه الطريقة يقودنا للتساؤل عن أي سلفية يتحدثون؟ هل سلفية ضواحي باريس المنتشرة بين الجاليات هناك وتنتعش في الفضاء الإلكتروني على الإنترنت تتشابه مع الجماعات السلفية في الصومال أو جماعات أهل الحديث السلفية العريقة في الهند والمنقطعة تقريبا عن أي سياق غير محلي حيث تخوض سجالاتها اللاهوتية مع قضية التصوف باعتباره منافسا اجتماعيا؟ أليست السلفية في مصر ضاربة الجذور منذ جماعة أنصار السنة ورشيد رضا، ولاحقا المخاض السلفي الكبير الذي يعد الشيخ الألباني الأب الشرعي له إذا اعتبرنا أن السلفية كتيار معولم عابر للقارات تحول جديد تم على رافعة الصحوة الإسلامية التي انتعشت في السبعينيات الميلادية واشتد أوارها في الثمانينات قبل أن يخفت ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)؟

من نافلة القول أن الحالة الإسلامية المعاصرة - إذا وسعنا مفهوم السلفية في شكلها الإحيائي الشعائري الشعبي - هي حالة سلفية، وذلك يرجع إلى عدة أسباب من أهمها طبيعة خطابها المعتمد على لغة بسيطة ومفاهيم يتم البرهنة عليها بحجج سهلة ومباشرة تجد طريقها إلى عقول العامة؛ فنبذ الخرافة والعودة إلى الأخذ بدلالات النصوص دون وساطة وربط الهوية الدينية بالسياق الاجتماعي المحافظ.. محددات للخلاص في ظل واقع دنيوي معقد ومربك روحيا.

من جهة أخرى فإن انتعاش السلفية في العصر الحديث لا يمكن إرجاعه لأسباب تتصل بخطابها المباشر المحدد والشعبوي؛ فهناك خطابات أخرى تحمل ذات الصفة؛ لكن يمكن الحديث عن تأثيرات أخرى ذات مدلولات سياسية مثل دور السلفية في بناء الشرعية للأنظمة حتى تلك التي قامت على شعارات قومية أو يسارية، فالواحدية الدينية المتمثلة في نبذ المختلف والشريك والمغاير تمثلت في واحدية سياسية في دعم الاستقرار الذي وصل في بعض تجلياته إلى التبرير للاستبداد والرأي الفرد، وهو الذي يفسر تلكؤ الخطاب السلفي الحديث إذا استثنينا بعض القفزات الهوائية في قبول الديمقراطية والتعددية.

السلفية، شأن كثير من المفاهيم التي نتداولها في فضاءاتنا الثقافية، مفهوم ملتبس ومغو من حيث الدلالة والتمثل، حيث انتقل البحث فيه من الدرس المعرفي والتتبع التاريخي إلى الصراع الآيديولوجي، وهذه النقلة التي سببت الالتباس اقترنت بغواية تكريسه نسقا ومفهوما قارا شديد السكون استنادا إلى ماضويته التي تعني توقف عجلة الزمان عند لحظة الأسلاف الأوائل، وهذا بدوره ساهم في تعثر كثير من المعالجات عن فهم ظاهرة السلفية المعاصرة وما فيها من «ميكانيزمات» الحداثة المقلوبة، حيث الارتهان إلى الحاضر بكل أدواته وصولا إلى الماضي العتيق كنوع من التفكير والعمل والممارسة بأثر رجعي. إذن نحن نتحدث عن «سلفيات»، وبالأخص حين نريد فهم ظاهرة السلفية الجديدة التي يجب أن نعترف - مع كل مواقفنا النقدية والرافضة لمضامينها الآيديولوجية - بأنها من أسرع المدارس الدينية والفقهية انتشارا، حيث تنتمي إليها شرائح متعددة من أبناء المجتمعات الإسلامية من أعلى الهرم وحتى القاعدة العريضة من الجماهير؛ فضلا عن التعاطف الكبير الذي تحظى به من قبل كثير من المسلمين التقليديين الذين باتوا يماهون بينها وبين الإسلام ذاته، باعتبارها الممثل الأجدر لنصوصه وقيمه.

ما كان للسلفية أن تتضخم لولا دعم جماعات الإسلام السياسي لها في أوج قوتها حتى لم تعد تسطير عليها أو تتحكم في إيقاعها، ومن هنا ولدت سلفية سياسية تسمى بالحركية مزجت بين الأفكار التقليدية للمدارس العقائدية والفقهية التي تشدد على ضرورة العودة والاقتصار على فهم مجموعات محددة من «السلف الصالح» وبين الحركات الإسلامية ذات البعد السياسي، وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين، التي ولدت خداجا من الاستناد التاريخي الذي وجدته في السلفية لتمدها بالحداثة المؤسلمة، حيث تشكلت كنظرية ومنهج تزامنا مع حركات الاستقلال الوطني، ومن ثم فشل الآيديولوجيات اليسارية والعلمانية لتقتنص فرصة تاريخية في الامتداد الأفقي عبر السلفية الشعبية، والعمودي عبر الطموح السياسي، واستهداف السلطة من خلال نقض مشروعيتها بفكرة الحاكمية وجاهلية الأنظمة وتقويض بناها الداخلية باعتبارها هموما قطرية تتعارض والإسلام الشمولي الذي لا يُتصور إلا تحت مظلة خلافة راشدة. وإذا كانت السلفية الجديدة آيديولوجية عقائدية فإنه من البدهي - شأن مثيلاتها - أن تمر بحالات تمرد وتجاوز من أبنائها ممن كانوا من المؤمنين بها لأسباب تعود إلى النقد المسلط عليها والقراءات التفكيكية لأطروحاتها، إضافة إلى الفشل الذريع الذي طال مشاريعها وممارساتها على مستوى التماسك الداخلي للنظرية وعلى مستوى العلاقة مع الآخر وقضايا الاجتهاد والتنمية والإصلاح، هذا إذا تجاوزنا السلفية المتطرفة - المؤمنة بالخيار العنفي - وهي التحول الذي أصاب جماعات الجهاد في فترة الجهاد الأفغاني بعد احتكاكها بالتيارات السلفية التي منحتها نقاءها العقائدي لكنها لم تستطع عقلنة خطابها العنفي، ومن هنا ولد ما سمي بالسلفية الجهادية التي عكست أسوأ تجليات التطرف الديني في المجتمعات الإسلامية منذ التاريخ، حيث خطاب التكفير واستباحة الدماء والأموال والعزلة عن كل ما ينتمي للعصر باعتباره نقيضا للإسلام والشريعة.. السلفية المتطرفة نموذج مغلق دوغمائي، لكنه في أزمنة الصراعات ومناخ الاستعمار والضغط في القضايا الكبرى ينتشر على حساب السلفية العملية أو الإحيائية بشكل يبعث على الكثير من الدهشة.

هناك قراءة سطحية للسلفية ناتجة من الحكم المتعجل على بنيتها المعرفية بالهشاشة بسبب التركيز على مفردات فقهية كالموقف من المرأة والفن والآخر وترك نظرية المعرفة الكلية.

الأكيد أننا أمام سلفيات عديدة متشعبة ومعقدة تختلف من بلد لآخر ولا يمكن الحديث عن سلفية واحدة تم تصديرها كسلعة ثقافية، فمفهوم التثاقف أو ما يسمى في العلوم الاجتماعية «التماس الثقافي»، وهو طريقة انتقال ثقافة أو آيديولوجيا معينة وتفاعلها مع واقع مختلف لينتج عنها مركب ثقافي آخر تماما.

من جهة أخرى فقد ساهم الخطاب السياسي في البلدان العربية في إعادة تشكيل السلفية بحسب الآيديولوجية السياسية في البلدان العربية والإسلامية، فنجد السلفية تأخذ طابعا اشتراكيا ثوريا تارة، ومهادنا يعزز من مفهوم الجبر الديني ويحوله إلى مبرر سياسي داعم للأنظمة الديكتاتورية، وربما تماس مع العلمانية بشكل عكسي حيث يتنازل عن دوره الشمولي في مقابل تحقيق حضور اجتماعي أو هيمنة على مؤسسات الدولة ذات الطابع الديني، وهذا ما يفسر لنا محاربة الأنظمة على اختلاف قناعاتها وأجنداتها السياسية لمفاهيم الحداثة والعقلانية والتقدم بسوط «السلفية الدينية».

لا يكفي في نقد السلفية اتخاذ موقف عدائي منها أو استبدال عدو الإرهاب الافتراضي إلى عدو آخر من لحم ودم اسمه السلفية.. فأكثر القرائن والدلالات الإحصائية تشير إلى ازدياد تنامي تيار السلفية بكل تنويعاتها، فهي تتحول بفعل نجاحاتها على مستوى الأدوات وبساطة الخطاب إلى هوية قارة تتشكل بحسب البلد الذي تستقر فيه.

من جهة ثانية هناك تنامي التعاطف مع السلفية عند شرائح عديدة من المجتمع من التكنوقراط والمثقفين، حيث يتجاوز شريحة المتدينين إلى بعض القوميين وتيار اليسار، حيث يفضلون الانحياز إلى كل ما هو معاد للغرب، والولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص، باعتبار أنها حددت السلفية كخصم لها في إعادة تعريفها لهوية الإسلام المعتدل من وجهة نظرها.

السلفية تعيش تطورات ضخمة على مستوى الخطاب والمفاهيم، كما أن هزات الواقع تجعلها تغير من خطابها، إلا أن الحق أن عالمنا العربي والإسلامي حالة من السلفية الكونية التي باتت نسقا معولما يضاد العولمة الغربية على كل المستويات، فأي إصلاح سياسي تعرقله السلفية السياسية التي تنزع إلى بقاء كل شيء على مكانه، ومشاريع التنمية تتطلب تجاوزا لعقلية السلفية الاقتصادية التي ما زالت متحفظة ومرتابة ضد أي انفتاح اقتصادي يتطلب سن قوانين جديدة تتمتع بمرونة عالية، وعلى المستوى الاجتماعي فالأمر يبدو جليا وواضحا حيث حالة النكوص والانجذاب نحو الماضي ومنطق العشائرية الاجتماعية ودعم كل إجراءات تثبيت الخصوصية في مقابل موجات العولمة المكتسحة لأنماط المعيشة والسلوك. نحن في أمس الحاجة الآن إلى تفكيك هذه السلفيات والكشف عن تناقضاتها الداخلية واحتكامها إلى الانتقائية، خاصة إذا علمنا أن استنطاق التراث وقراءته بشكل معرفي محايد تقودنا إلى تعددية هائلة تتيح لنا أن نستخلص أدوات ونماذج يمكن أن نتعايش معها بشكل متوازن بين متطلبات العصر وكل ما هو إيجابي وصالح من موروثنا الديني والتاريخي والسياسي؛ دون الحاجة إلى إحداث قطيعة لا يمكن تبيئتها داخل المجتمعات الإسلامية التي تعيش فصاما نكدا بين واقع تريد قسره بمنطق الماضي.. ذلك الذي يسكننا بعيدا وغائرا.

[email protected]