بين المصالحتين الفلسطينية ـ الفلسطينية والكردية ـ الكردية

TT

لا أظن أني المتشكك الوحيد في قدرة المصالحة بين فتح وحماس على الثبات والنجاح في توحيد سلطتيهما، الذي ترمي إليه تلك المصالحة. ويقوم شكي على حضور نوعين مختلفين من التجارب الوحدوية لإنهاء الانقسام، أحد النوعين الذي كان ذا مفعول سريع وفعال، تجربة الوحدة بين الحكومتين: الألمانيتين أو الفيتناميتين أو اليمنيتين، أما الثاني فهو، تجربة توحيد الحكومتين الكرديتين بأربيل والسليمانية، ففي الأول تحققت الوحدة باندماج فوري لإحدى الحكومتين بالثانية دون قيد أو شرط أو وسيط، وفي الثاني، لم تكن فورية بل كانت مقيدة بشروط من خلال وسيط (واشنطن)، استغرقت 13 عاما إلى أن توحد الجهازان الأمنيان (الآسايش) في مؤسسة واحدة، وذلك قبل أيام، وعلى امتداد تلك الأعوام، فإن المصالحة بينهما كانت تلتقط أنفاسها في أكثر من محطة وقوف، تمثلت باجتماعات ولقاءات بينهما لا تحصى، وعبر لجنة مشتركة (لجنة التنسيق). كل ذلك نتيجة لتمسك طرفي النزاع بحصص متساوية في السلطة، وكان بوسعهما اختزال المسافة بأخذ التجارب من النوع الأول، لا العودة إلى مبدأ الـ«ففتي ففتي»، وتقسيم السلطة مناصفة، الذي كان السبب في اندلاع الاقتتال بينهما عام 1994، ويخيل لي ولغيري أيضا، أن الوقت ما زال مبكرا لكي تستقيم الأمور بالشكل المطلوب في كردستان العراق، رغم أن ما تحقق في توحيد الإدارتين الكرديتين يبعث على التفاؤل في تذليل ما يصنف على أنه اقتسام السلطة بينهما مناصفة.

لقد انتهج الطرفان الفلسطينيان الحل الكردي في المصالحة، التي ستمضي ببطء أشد مما رأيناه في الحالة الكردية، وقد تدخل، في بعض من المنعطفات، في مواجهات ترقى إلى مستوى إراقة الدماء، وقد لا تصل إلى شاطئ الأمان.

وأذكر القراء بما يشبه أول الغيث قطرة، حين رفض محمود عباس «أن يكون في موقع مساو فيه مع خالد مشعل»، فبرزت «مشكلة ترتيب المقاعد»، التي تجسدت في السؤال «أين يجلس خالد مشعل؟»، وذلك أثناء مراسم المصالحة في «القاهرة» بينهما. وسيلي ذلك «الرفض» و«الأين» أكثر من رفض وأين في القادم من الأيام حتما.

وكما النزاع الكردي - الكردي الذي دام 4 سنوات، فإن النزاع الفلسطيني – الفلسطيني دام 4 سنوات كذلك، وشهد النزاعان، أكثر من وسيط ومسعى حميد لإنهائهما. وعلى غرار «لجنة التنسيق» الكردية، فقد أسست لجنة مشتركة بين فتح وحماس. لذا فإن ما جرى الاتفاق عليه بينهما سيواجه معوقات قد يتعذر تجاوزها، وتهون أمامها تلك التي أبطأت توحيد الحكومتين الكرديتين، ففي الحالة الفلسطينية تكون العوائق أصعب، إذا علمنا أن المصالحة الكردية - الكردية تمت بين قوتين علمانيتين قوميتين: الديمقراطي الكردستاني والوطني الكردستاني، اللتين تجمعها ولا يزال، مشتركات كثيرة، كالتطابق في الرؤى حيال القضايا على الصعد الكردستانية والعراقية والإقليمية والدولية. ثم إن الحزبين كانا منذ تأسيس الديمقراطي الكردستاني عام 1946 وإلى عام 1975 حزبا واحدا، باستثناء فترة انشقاق ضيقة، وسبق لهما أن خاضا الكفاح المسلح في خندق واحد (الجبهة الكردستانية) ضد النظام البعثي، ودخلا منذ أعوام في تحالف متين، وقطعا شوطا مشجعا باتجاه ترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة. أضف إلى ذلك، أن أصحاب القرار في «واشنطن» والعالم الديمقراطي يدعمون التجربة الديمقراطية في كردستان، فبفضل «واشنطن» ورعايتها المباشرة وقع الحزبان اتفاق المصالحة بينهما عام 1998.

مثل المزايا أعلاه لا تتوفر في فتح العلمانية القومية ذات التوجهات الديمقراطية الغربية والتصالحية مع إسرائيل، وفي حماس الإسلامية المتشددة ذات التوجهات شبه الطالبانية والقاعدية والإيرانية. وليس هنالك من تجارب سابقة للتداول السلمي للسلطة بين قوتين متنافرتين في الآيديولوجيا والتوجهات السياسية مع تنافر وتضاد بين المساندين لكل من الطرفين، وعلى حدة، وتفيد التجارب بأن الثنائي المتداول طرفاه للسلطة غالبا ما يكونان منسجمين إلى حد كبير وكأنهما حزب واحد. وميزة كهذه لا تتوفر في المتنازعين الفلسطينيين. وإذا كان الوسيط الأميركي قد وقف على مسافة واحدة من الجانبين الكرديين، فإن العالم، وفي مقدمته أصحاب القرار، لا يقف على المسافة نفسها من الجانبين الفلسطينيين لأسباب معلومة، فذلك العالم يرفض فكرة تسلم الإسلام السياسي للسلطة، حتى وإن جاء من خلال صناديق الاقتراع وبطرق جد ديمقراطية. وأمامنا مثالا جبهة الإنقاذ في الجزائر، وحماس في الأراضي المحتلة، كما أنه سيان عند الغرب وصول الإسلاميين إلى الحكم بأساليب ديمقراطية أو الثورات والانقلابات المسلحة، وأحيل القارئ إلى تجربتي الثورة الإسلامية في إيران وثورة طالبان في أفغانستان، فحرب الغرب معهما سجال لن تتوقف إلا بدحرهما، أما المثال التركي فإنه استثناء، ولكل قاعدة استثناء. يقينا أن الغرب لن يسمح لحماس بالوصول إلى السلطة في الانتخابات الفلسطينية المقبلة، وإن غدا لناظره قريب.

مما تقدم، سيدوم أمد المفاوضات بين فتح وحماس التي سترهق الطرفين، مثلما ترهق المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية، ليس الإسرائيليين والفلسطينيين فحسب، بل العرب وغيرهم أيضا، وسيؤثر ذلك سلبا على تقدم القضية الفلسطينية، كل ذلك وسط أجواء توحي بها الانتفاضات العربية من رفض للتسوية مع إسرائيل ورد للغرب، مما يعني العودة إلى المربع الأول الذي كانت تجول وتصول فيه الشقيرية والناصرية وأشكال من مرض الطفولة اليساري، التي برهنت الوقائع على بطلانها وعقمها. نعم ليس ببعيد أن يعيد التاريخ نفسه.

* رئيس تحرير جريدة «راية الموصل»