الأخلاق والعدالة في الغرب

TT

بعيدا عن السياسة وما يجري من أحداث خطيرة بل ومصيرية في عالمنا العربي، وقد أشبعت تعليقا وتحليلا، أسمح لنفسي بأن أتوقف عند «قضية صغيرة» كانت لها ضجة كبيرة في فرنسا والغرب عموما، وأعني قضية توقيف «دومينيك شتراوس - كان»، مدير صندوق النقد الدولي، والمرشح الأوفر حظا - حسب الاستقصاءات - للفوز برئاسة الجمهورية الفرنسية القادمة، بتهمة «التحرش الجنسي بعاملة الفندق الذي كان ينزل فيه في نيويورك، وهو في طريقه إلى الاجتماع برؤساء الدول الأوروبية، وسوقه كأي «متهم عادي» مكبلا إلى السجن والمحكمة...

لقد كان مشهد هذه الشخصية العالمية مكبل اليدين وذليلا أمام المحكمة الأميركية، مشهدا مؤلما لمئات الألوف من الفرنسيين وغير الفرنسيين الذين رشحوه لأعلى المناصب في بلاده وفي العالم. ولكن تلك هي «العدالة» في الولايات المتحدة: لا فرق عندها بين «كبير» و«صغير». ولا بين مدير صندوق النقد الدولي الذي يوزع المليارات على الدول.. وبين «عاملة تنظيف» في فندق. لا بين رئيس للدولة وسائق تاكسي، إذا خالفا القوانين.

قد يخرج «كان» بريئا من التهم التي ألصقت به، إذا لم تتمكن النيابة العامة من إثباتها، وقد يدان وينهي حياته في السجن. إنما العبرة الحقيقية هي في أن المحاكمة العادلة مضمونة في الأنظمة الديمقراطية، وأن حقوق الإنسان محترمة، لا كما هي الحال في الدول اللاديمقراطية...

ثمة نقطة أخرى تستحق التوقف عندها في هذه القضية - وغيرها من القضايا «الجنسية» أو «الأخلاقية» الشهيرة التي عرفتها المحاكم في الغرب - ألا وهي المتعلقة بـ«مفهوم الأخلاق»، والقوانين التي تحمي حقوق الإنسان وترعى حرياته. والفرق بين التحديد القانوني للمباح وللمحرم في تصرفات الإنسان، ذكرا كان أم أنثى، في المجتمعات الأميركية الأوروبية، ناهيك عن غيرها من المجتمعات الأخرى في العالم، ولا سيما مجتمعاتنا الشرقية.

فتحرش «شخصية عالمية» بعاملة فندق في نيويورك، في حال ثبوته، يعرض مرتكبه إلى السجن عشرين عاما.. بينما القوانين في سان فرانسيسكو تسمح بزواج المثليين. وفي فرنسا وأوروبا عموما «يعيش معا» رجال ونساء، ومن بينهم وزراء ونواب ومشاهير، «كرفاق» أي بدون عقد زواج، وتعتبر «الخيانة الزوجية» في فرنسا وإيطاليا، موضوع تندر، بينما تعتبر العلاقات الغرامية أو الجنسية خارج الزواج، في الولايات المتحدة، لا سيما على مستوى الشخصيات السياسية الكبرى، أمرا مدانا. وعندما أثيرت قضية لوينسكي بوجه الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون، لم يكن تركيز المحقق في ملاحقته، على المغامرة الجنسية بحد ذاتها، بل على «كذب» الرئيس في إنكاره لها. فالكذب، في المفهوم القانوني والأخلاقي الأميركي، أفدح من مغامرة جنسية يقوم بها رئيس مع سكرتيرة صغيرة في البيت الأبيض.

ولا داعي للتذكير بالبون الشاسع في مفهوم الأخلاق والعلاقات الجنسية البشرية بين المجتمعات الغربية والمجتمعات الشرقية. فباسم احترام حقوق الإنسان وحريته، في الغرب، تراجع المفهوم الديني للأخلاق وللمقدسات العائلية وللحلال والحرام، وساد نوع من الإباحية الجنسية شبه المطلقة بين الأجيال الطالعة. أما في المجتمعات الشرقية فإن التشدد الشكلي والقانوني في حماية الأخلاق الحميدة والمحافظة على التقاليد ومراعاة أحكام العقيدة الدينية أدى، أحيانا، على يد بعض السلطات الحكومية أو القضائية، إلى امتهانات لحقوق الإنسان وتكبيل لحريته. ولا يزال السؤال مطروحا: هل من الصعب أو المستحيل التوفيق بين الحريات الشخصية في المفهوم الديمقراطي الذي توصل إليه الغرب.. وبين الضوابط والمبادئ التقليدية المحافظة التي فرضتها الأديان على الإنسان والمجتمعات البشرية منذ آلاف السنين؟

قضية «دومينيك شتراوس - كان» تطرح كل هذه التساؤلات. بالإضافة إلى سؤالين بسيطين وهما: 1) هل يستحق إنسان السجن عشرين سنة، لمجرد أنه «تحرش» بعاملة الفندق الذي ينزل فيه؟ 2) ألا يستحق القضاء الأميركي التهنئة على دفاعه عن حقوق عاملة بسيطة تتهم شخصية عالمية بالإساءة إلى كرامتها؟