أن يكون المؤرخ حرا

TT

هناك عبارة للمؤرخ الكبير لورد أكتون تقول: ليس قبل مائة عام، يكون المؤرخ حرا في أن يكتب ما يريد!

أي أن الإنسان من الممكن أن يروي الأحداث وهو طرف فيها.. أن يعايشها ويكتب سوف تكون الدماء حارة والألوان حية والأصوات واضحة ولكن لن يكون حرا.. لا بسبب هذه الزحمة اللونية والصوتية ولكن لأن صانعي الأحداث وشهودها أحياء ولأنهم أحياء فلن يكون دقيقا في وصف الأحداث!

أو بعبارة أخرى: معايشة الأحداث تجعل منك أديبا.. أو شاعرا.. أو رساما.. ولكن تحرمك من أن تكون مؤرخا منصفا!

فلكي تكون منصفا، يجب ألا يهتز الميزان في يديك.. ويجب أن تكون معصوب العينين والأذنين، فلا ترى أحدا يخيفك أو تخيفه، ولا تسمع رجاء ولا شكوى وأن تنشغل فقط بما يمليه عقلك على ضميرك وعلى قلمك!

ويضرب لورد أكتون مثلا صغيرا احتار هو في حله.. إذ جاءه طفلان صغيران يختلفان على من يكون له تمثال «بابا نويل».

فقد دخل الطفلان غرفة نومه، ورأى أحدهما التمثال وأخذه، وخطفه الثاني، وتمزق التمثال بينهما. وطلبا إليه أن يحسم الخلاف بينهما.. الطفلان دخلا غرفة لورد أكتون إذن.. ولم يعرف أيهما الذي دخل أولا، وأيهما الذي رآه، وأيهما الذي مزقه فكتب رسالته المشهورة!

إلى ولدي العزيزين.. لست مؤهلا للحكم في هذه القضية.. أحفادكما أقدر مني.. رفعت الجلسة!!

ولذلك أرى أن الكثير مما تنشره الصحف والمجلات يدخل في باب الأدب والفن ويخرج من باب العلم.

أي علم التاريخ المنزه عن الخوف والغضب ولذلك فمعظم هذه الكتابات أقرب إلى الخناقات والخصومات الشخصية وتسوية الحسابات..

ولذلك يتخذ الكاتب أسلوب الدفاع عن النفس.. كأن هناك تهمة.. والتهمة هي أن يكتب في هذا الموضوع.. فإذا فعل، فيجب أن يقول: أنا.. وهكذا يقف أمام الموضوع أو القضية وليس إلى جوارها.. وقد ينسى القضية لأنه شخصيا قد أصبح قضية!