خطاب بلا مضمون!

TT

كما كان متوقعا، جاء خطاب الرئيس الأميركي مخيبا للآمال، صحيح أنه انحاز للحريات والشعوب، ولكنه كان انحيازا مقننا ومحسوبا، فهناك شعوب أولى من غيرها، ودماؤها أرخص أو أغلى بحسب المصالح، وبالتالي مرة أخرى تسقط السياسة الأميركية في الشرق الأوسط في فخ الازدواجية والكيل بمكيالين، فمن غير المقبول أن تكون هناك شعوب حرة وعزيزة ويجب دعمها، وهناك أنظمة تبيد شعوبها بالأسلحة والعتاد ولا بأس من أعطائها مزيدا من الوقت «للإصلاح»، وطبعا لا يمكن إغفال المشهد المتناقض الكبير في قضية فلسطين والصراع العربي - الإسرائيلي، فلم يكد ينهي الرئيس الأميركي أوباما كلمته، حتى كان الاعتراض والرفض الإسرائيلي الصريح للعودة إلى حدود 1967 والاعتراف بالدولة الفلسطينية، مع التذكير بأن إسرائيل استبقت خطاب أوباما بإعلانها عن أكبر مشروع استيطاني بالقدس الشرقية، ضاربة عرض الحائط كعادتها بكل التحفظات والاعتراضات والقرارات الدولية التي تنهي وتمنع ذلك. ولم يكتف أوباما بما عرض، ولكنه وضع شرطا جديدا «تعجيزيا»، وهو ضرورة أن يعترف الفلسطينيون «بيهودية» دولة إسرائيل كهوية، وهو ما يعني عمليا أن كل العرب فيها يجب إما ترحيلهم أو الاعتراف الرسمي بهم كمواطنين من الدرجة الثانية.

ولا أعلم كيف يسمح رئيس أهم دولة ديمقراطية في العالم، دولة أقيمت على مبدأ دستور مهم تقول كلماته إن «كل الرجال خلقوا سواسية»، هكذا كان فكر الآباء المؤسسين للديمقراطية الأميركية، وهذا ما قامت عليه الدولة؛ كيف يروج لفكرة تناقض هذا المبدأ الأساسي؟ وبعدها يتجرأ المنظرون والساسة الأميركيون على أن يدعموا إسرائيل لأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهذا هراء كبير. فالآن الشرق الأوسط يعاد تشكيله، دول تبحث عن حريتها وتعيد تأسيس حياتها السياسية لتكون مؤسسة على الحريات والحقوق والمساواة والعدل؛ يعكس هذه المبادئ دستورها السياسي وحياتها البرلمانية، ودول تمارس التفرد والاستبداد والتفرقة، وعلى رأسها إسرائيل، تقدم ذلك بمبدأ عنصري وبمباركة دولية غير عادلة.

هذه التصريحات جاءت على ألسنة مسؤولين تنفيذيين رئيسيين في الإدارة الأميركية من الوزن الثقيل، مثل وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، ونائب الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، اللذين بدوا متخبطين وغير قادرين على قراءة ما يحدث بشكل سليم ودقيق.

كان الرئيس أوباما محقا أن الثورة العربية استطاعت في ستة أشهر تحقيق ما عجز تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات المتشددة والإرهابية من تحقيقه في عقد من الزمان، ولكن هنا السر الجديد الذي يغفله صانعو القرار في أميركا، ولا يدخلونه في رؤيتهم التحليلية لما يحدث اليوم في المنطقة. وهذا التخبط المبدئي في التصريحات هو الذي هز مكانة هيلاري كلينتون وإدارتها، وجعل البروز الواضح لمكانة السيناتور الأميركي جون كيري، رئيس العلاقات الخارجية بالكونغرس الأميركي، الذي يتولى ملفات شائكة في السياسة الخارجية الأميركية، لعل أبرزها الملف الباكستاني، وكذلك الملف السوري والملف اللبناني، وهو الذي يبدو أنه مرشح وبقوة ليتبوأ منصب وزير الخارجية خلفا لكلينتون، وكل هذه التطورات تؤكد أن سياسة الخارجية الأميركية «لا صاحب لها»، مما أدى لأن يقدم السياسي الأميركي المخضرم، جورج ميتشل، استقالته كوسيط سلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، لإدراكه أنه لا توجد جدية كافية للحزم وإنهاء هذا الصراع بأسلوب جاد وحقيقي.

خطاب أوباما جاء مخيبا للآمال، خاليا من «المضمون» المطلوب لإرساء سياسة أميركية جادة داعمة شاملة مستمرة على الجميع. أوباما كان لدية فرصة تاريخية لبناء جسور من الثقة مع الشعوب العربية، ولكنه اختار الاتجاه بنفس الطريق، مع تغيير في المفردات. دماء تنزف وأرواح تزهق ويستمر إعطاء الوقت والفرصة للطغيان بشكليه العربي والإسرائيلي!

[email protected]