درس تاريخ العلاقات الأيرلندية ـ البريطانية

TT

زيارة الملكة إليزابيث الثانية، رأس المملكة المتحدة ومجموعة الكومنولث، لجمهورية أيرلندا (الجنوبية)، تاريخية بكل المقاييس الإقليمية والعالمية، وأيضا درس للتاريخ وللعلاقات الدولية.

بالنسبة لقراء «الشرق الأوسط» الأعزاء، وبينهم دبلوماسيون وصناع قرار، نناقش الزيارة بمقاييس السلام والتحرك أماما، نحو مستقبل إنساني أكثر تفاؤلا بعد طي صفحات الماضي.

ولا نقصد تجاهل الحقوق المشروعة للأفراد والتسويات الاجتماعية والمادية والمتعلقة بالملكية، بل ضم صفحات الماضي لمناهج التعليم وملفات التسويات القانونية. صفحات ترسم خريطة طريق لتفادي ألغام خطيرة تركها الماضي. فالألغام السياسية والعاطفية التي تحركها آيديولوجيات ومعتقدات لم تعد تلائم العصر الحديث ومتطلباته، وهي أكثر خطورة من الألغام الحربية. فقوافل العربات التي تسحبها حيوانات الجر وقت انحسار التجارة في العالم القديم لا تلائم التجارة اليوم عبر الأطلسي مثلا.

زيارة جلالة الملكة هي الأولى للتاج البريطاني لأيرلندا كجمهورية بدأت استقلالها عنه بتقسيم الجزيرة لأيرلندا الجمهورية جنوبا، والشمال البريطاني عام 1920. آخر زيارة ملكية كانت لجدها الملك جورج الخامس (جورج فردريك أرنست ألبرت 1865 - 1936) عام 1911 متفقدا البلاد كجزء من مملكته، التي ضمت إنجلترا وإمارة ويلز واسكتلندا وأيرلندا والتوابع بقانون وحدة المملكة عام 1800.

بين البلدين، علاقة حب وكراهية، فأكبر جنسية أنغلوسكسونية غير بريطانية موجودة في بريطانيا هي الأيرلندية. ولا يحتاجون لفيزا أو تأشيرة عمل. إنشاءات الثورة الصناعية والبنية التحتية العملاقة شيدها العمال الأيرلنديون. وحجم التجارة بين بريطانيا والجمهورية الأيرلندية يفوق حجم تجارة بريطانيا مع البرازيل والهند والصين مجتمعين.

وارتدى الأمير هاري، حفيد الملكة زي كولونيل الفرقة الأيرلندية، في حفل زفاف شقيقه الأمير ويليام، لأن والدته المرحومة ديانا كانت تحتل المنصب، وقبلها جدة أبيه إليزابيث الأم.

وحتى 2001 عندما أوقعت عصابة بن لادن والظواهري الكارثة بالمسلمين، كان الإرهاب بالنسبة لبريطانيا هو الذي تعرضت له من قبل الحركة الجمهورية الأيرلندية - منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي، المؤقتة وتفرعاتها (لأن المنظمة الأصلية نبذت العنف بعد اتفاقية الاستقلال في العشرينات). والمصدر الأكبر لمفرقعات وأسلحة المنظمة كان الكولونيل معمر القذافي في السبعينات والثمانينات، بينما مصدر التمويل الأكبر هو اللوبي الأيرلندي في أميركا.

الملكة لم تعتذر، بل تحدثت عن الماضي، وتمنت لو «عولجت الأمور بطريقة مختلفة» إشارة غير منطوقة لضحايا الإرهاب ضمن الصراع مع سلطات أخطأت في قمع الحركة الجمهورية بالعنف الأمني.

وضعت جلالة الملكة الزهور على النصب التذكارية، لـ«الشهداء الأيرلنديين» في صفوف الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى، و«شهداء» حرب التحرير الأيرلندية الذين ماتوا برصاص الجيش البريطاني.

وقالت بتأثر: «إن الأخطاء مست الجميع» إشارة ضمنية إلى ضحايا العنف الأيرلندي، بما فيهم عمها اللورد مانباتن (1900 - 1979) الذي اغتالته المنظمة في يخته عام 1979، وحاولت اغتيال رئيسة الوزراء السابقة الليدي ثاتشر في برايتون بتفجير الفندق الذي نزلت فيه وبقية الوزراء عام 1984 مسببة عشرات الضحايا.

وزارت الملكة كورك بارك في العاصمة دبلن، وهي في التاريخ الأيرلندي بمثابة دير ياسين للفلسطينيين. ووضعت الزهور بصحبة ماري ماكليز، رئيسة جمهورية أيرلندا في المكان الذي مات فيه 14 أيرلنديا برصاص الجيش البريطاني، فيما عرف بالأحد الدامي أثناء انتفاضة عيد الفصح عام 1916. وهو أحد محركات الانتقام الذي لا يزال يمارسه نفر قليل من الحركة الجمهورية المتعصبة التي تزرع القنابل وتغتال كاثوليك انضموا لشرطة أيرلندا الشمالية (معظم الجمهوريين كاثوليك ضد الأغلبية البروتستانت التي تعتبر أيرلندا الشمالية أرضا بريطانية).

وبريطانيا ضمت أيرلندا منذ القرن الثاني عشر، وتاريخيا ثمن الاحتلال باهظ إنسانيا. لكن مقاييس القرون الماضية اختلفت عن مقاييس عصر الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية.

في الماضي اعتبرت الإمبراطوريات مطالب قوم ما بالاستقلال عن الدولة المركزية، خيانة عظمى، والكنيسة، التي ارتبطت بالتاج، اعتبرتها كفرا فباركت تسيير الجيوش لوضع حد للتمرد.

وعندما ثار أوليفر كرومويل (1599 - 1658) على تشارلز الأول (1600 - 1649) وبدأت الحرب الأهلية الإنجليزية عام 1642 (استمرت حتى 1651) وقطع رأس الملك تشارلز 1649، أراد تأكيد سلطة البرلمان ومنح السلطة كلها للشعب. لكنه أنكر الحق نفسه للأيرلنديين ليقود واحدة من أبشع حملات التنكيل لإخضاعهم..

وعانى الأيرلنديون مما عرف بمجاعة البطاطس (1845 - 1852) وهو ما جعل المجاعة الأولى (1740 - 1741) تبدو كوعكة أنفلونزا.

ويتفق المؤرخون على أن هجرة الأيدي العاملة الماهرة لإنجلترا، وتفشي الأمراض، وقلة الاستثمار وقسوة الحكم البريطاني كانت أهم أسباب المجاعة التي راح ضحيتها مليون شخص، بينما هاجر مليون آخر. معظمهم ذهب لأرض ميعاد الحرية، أميركا. واللوبي الأيرلندي هو أقوى مجموعة ضغط تؤثر في السياسة الخارجية الأميركية، خاصة المحيط الأنغلوسكسوني، أقنعت إدارة الرئيس رونالد ريغان (1911 - 2004) بالتحرك لحل مشكلة أيرلندا الشمالية، وبيل كلينتون بتكريس دبلوماسيته لتسوية بدأها جون ميجور وأتمها توني بلير في اتفاقية الجمعة العظيمة 1998؛ وكان قد قدم في عام 1997 مذكرة اعتذار بريطانيا رسميا للشعب الأيرلندي عن مجاعة البطاطس.

ولذا فخطبة جلالة الملكة التاريخية القصيرة، التي اختيرت كل كلمة فيها بعناية شديدة بدأت كتابتها منذ عام 1914 عندما أصدر مجلس العموم البريطاني قانون منح الحكم الذاتي للأيرلنديين.

وتبع ذلك حروب، واتفاقيات انتهكتها جماعات إرهابية، وإدارات عالجت المشكلة أمنيا لا سياسيا، ومذكرات تفاهم، وخارطة طريق، وبعث الإرهاب حيا، لكنه يتناقص رغم استمراره في زرع ألغام الماضي في أرض الحاضر.

زيارة الملكة تأكيد رسمي باتفاق الجميع على منع آيديولوجيا التعصب من زرع ألغام الماضي في طريق المستقبل.

المفارقة أن قانون إعلان جمهورية أيرلندا الحرة في مقاطعات الجنوب عام 1948 يتزامن مع قرار تقسيم فلسطين، عندما حرمت ديكتاتوريات العرب الفلسطينيين من دولة مستقلة (أكبر جغرافيا مما يحاولون الحصول عليه اليوم منقوص السيادة)، وأعلنوا الحرب، داعين الفلسطينيين إلى ترك أراضيهم وممتلكاتهم للعودة مع الجيوش العربية إلى ما بقي من أنقاض «دولة اليهود».

وتاريخ حركة الاستقلال الأيرلندية الحديث يتزامن مع خطاب (1917) وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور (1848 - 1930) إلى البارون ليونيل وولتر روزتشيللد (1868 - 1937) فيما يعرفه العرب بوعد بلفور (لم أقابل على مدى 40 سنة من بين مئات العرب من لاعني بلفور سوى اثنين فقط قرءا الخطاب كاملا وعلى دراية بفقرة الحفاظ على حقوق السكان الفلسطينيين).

ولعل في درس مصالحة الأيرلنديين لبريطانيا بعد عشرة قرون من المجاعات والمذابح، ومئات آلاف الضحايا، عبرة للساسة وصناع القرار الساعين لتسوية وسلام بين الجارتين فلسطين وإسرائيل ليحل التعاون والمشاركة في بناء المستقبل محل بث ألغام الماضي على طريق بناء المستقبل.