عندما يتحدى (كيوبيد) الجدران العالية

TT

من الثابت أن (الحاجة هي أم الاختراع)، مثلما هي المآزق والوقوع في الشراك، فهي التي تفتق الذهن، وتوسع مجال الخيال، وتجعل (من لا حيل له يحتال).

وغرامي هو دائما في ضرب الأمثال الواقعية لأي موضوع أتطرق إليه، لأكتشف فقط مكامن القوة والضعف في الإنسان نفسه.

ولو سمحتم، سوف أعود بكم إلى عام 1949 من القرن الماضي، عندما كانت (المجر) في ذلك الحين دولة شيوعية تدور في فلك (الاتحاد السوفياتي).

وكان هناك ملحق صحافي للمجر لدى بريطانيا، ويدعى (بول أجنوس)، وقد عاد إلى بلاده لزيارة والده المريض، وما إن وصل حتى اعتقله رجال البوليس السري وأودع السجن بتهمة العمالة، وأنه كان آلة طيعة في أيدي (الإمبرياليين) وأصحاب رؤوس الأموال، وحكم عليه بالسجن عشرين عاما.

وبعدها بفترة قبض أيضا على (فلورنس ماتاي)، وهي إحدى الموظفات الشابات بنادي السيارات، بتهمة الجاسوسية، وحكم عليها بالسجن خمسة أعوام. واستقر الاثنان في سجن واحد، ومن المصادفة أن زنزانتيهما كانتا متجاورتين لا يفصل بينهما غير جدار، على الرغم من أن الأولى تقع في ممر قسم الرجال، والأخرى تقع في ممر قسم النساء. وفي إحدى الليالي، وبينما كانت هي على وشك النوم، سمعت خبطات مكتومة على الجدار الفاصل، وعندما تحققت منها، إذا هي نقرات بطريقة (مورس) التي تتقنها، وكان محدثها يسأل عن ماهية جاره، فردت عليه برسالة هي عبارة عن نقرات تخبره فيها عن اسمها، وتسأله بدورها عن اسمه.

ومن هنا بدأت محاوراتهما الليلية الطويلة التي خاضا فيها في جميع المجالات السياسية والتاريخية والفنية والعقائدية والاجتماعية والفكاهية، وحتى العاطفية، لم يكن أي منهما يعرف شكل الآخر، غير أن (كيوبيد) الحب (اللعين) اخترق بكل كفاءة جدران السجن العالية، متحديا كل الأبواب الموصدة والسلاسل المكبلة، وساعده في ذلك حرمان كل منهما من الآخر، وشوق كل منهما للآخر - أو بمعنى أصح توق كليهما (للحياة الطبيعية السوية).

وفي أحد الأيام انقطع الإرسال فجأة من زنزانة (أجنوس) دون أن تعلم هي السبب، وانتابها القلق والهواجس والخوف، وما هي إلا عدة أشهر حتى أطلق سراحها عام 1955، وهي لا تدري ماذا حل به!

وتشاء الصدف في ذلك العام نفسه أن زعيمي روسيا (خروتشوف وبولغانين) سوف يزوران بريطانيا، ورغبة منهما أن لا يضايقهما زعماء حزب العمال البريطاني بطلب إطلاق سراح المعتقلين من الديمقراطيين الاشتراكيين، فقد أطلقا قبل سفرهما سراح الكثير منهم، ومن بينهم (أجنوس)، الذي كان قد نقل إلى سجن آخر.

وبحكم أنه يعرف عنوانها وكل شيء عنها، فقد بحث عنها حتى التقاها لأول مرة، وكانت هي وقتها في الثانية والثلاثين من عمرها وهو في الخمسين من عمره.

وما إن جلسا مع بعضهما حتى تيقن كل منهما أنه وجد ضالته في الآخر، وما هي إلا أسبوعان حتى تزوجا، ولا أدري بعد ذلك هل خلفا صبيانا وبنات؟!، أم العكس؛ بنات وصبيانا؟!، أم بين بين؟!

المهم، نصيحتي لكل عاشق على وشك أن يسجن هي: عليه أن يتعلم من الآن طريقة (مورس)، فهي الطريقة أو اللغة المضمونة لإيصال المعلومات من خلف الجدران، (وعلّ وعسى) أن تكون الزنزانة الملاصقة له على شاكلة زنزانة (فلورنس)، فليس هناك أروع من مطارحة الغرام بواسطة (النقر)، صدقوني.

[email protected]