فتاة الفندق ومدير الصندوق وقلق الحضارة

TT

الفتاة هي السيدة الغينية التي تعمل في خدمة الغرف (house keeping)، والفندق هو «سوفيتيل» في حي مانهاتن بنيويورك، ومدير الصندوق، ليس أي صندوق، بل صندوق النقد الدولي، دومينيك ستروس – كان، (أو الذي كان)، أما قلق الحضارة فهو عنوان كتاب شهير لفرويد وهو «civilization and it›s discontents»، وإذا كان من الصعب تصور أن كتابا في التحليل النفسي صدر في ثلاثينات القرن الماضي له صلة بحادثة اعتداء جنسي في فندق في الألفية الثالثة، غير أني أرى أن هذه الواقعة بالتحديد وثيقة الصلة بكتابه الذي تناول فيه بشرح مبسط وجميل ذلك الصراع الدائم بين الإنسان وما تفرضه الحضارة من قيود على كل نزعاته العدوانية، وأولها الجنس، بطبيعة الحال. كل خطوة يقطعها الإنسان في طريق الحضارة، تحتم عليه أن يتخلي - مع ما يسببه له ذلك من ألم - عن جزء من مصادر اللذة، ولعل أكثرها أهمية الجنس والعدوان، وفي أحيان كثيرة، كما في واقعة الفندق، يكونان شيئا واحدا.

لقد انشغل فرويد في بداية الثلاثينات بالبحث عن أسباب تعاسة الإنسان على الرغم من كل ما حققه من نجاح في ذلك الوقت على مستوى المعيشة في الحياة اليومية، فقاده بحثه إلى أن تعاسة الإنسان ليست ناتجة من الأفكار والآيديولوجيات الفاشية التي كانت تزحف على أوروبا في ذلك الوقت، بل إن هذه التعاسة ناتجة عن مقاومته للحضارة، أو بمعنى أدق من إحساسه بالألم الناتج عن التزامه بكل ما تفرضه الحضارة من قيود على سلوكه، وخاصة الممتع منه.

حتى الآن يبدو كلامي غامضا بعض الشيء، غير أني أعدك أن أكون أكثر وضوحا بشرط أن تستوعب فكرة أن كل ما هو بدائي في عقل الإنسان، لم يختف أو يندثر بفعل التطور، بل يبقى لابدا في مكانه في أعماق بعيدة منتظرا اللحظة المناسبة التي يقفز فيها على سطح العقل. والمقصود بعبارة «كل ما هو بدائي في العقل»، كما قالها حرفيا، هو ذلك التفكير الطبيعي عند الآدمي الطبيعي منذ آلاف السنين، قبل أن تسيطر عليه الحضارة بقيودها التي صنعتها عبر آلاف السنين، والتي تدفعه دائما لمراجعة أفكاره الراغبة في اللذة، وتنبهه إلى الأخطار التي تنتظره من المجتمع في حال أن يستسلم لها.

فكر معي في المشهد بعد أن ننقل الحدث إلى زمانه الطبيعي ومكانه الطبيعي، مائة ألف عام إلى الوراء، نحن نرى الآن الجد الأكبر لدومينيك ستروس جالسا أمام كهفه في الغابة وهو يلقي نظرات سريعة حوله ليتأكد أن المكان ليس به وحوش مفترسة، وفجأة أرهف السمع بعد أن سمع خطوات خفيفة تتكسر تحتها أغصان الغابة، كانت أنثى في طريقها لتستحم في غدير قريب، بغير تفكير، أو للدقة، بالتفكير الطبيعي للبشر في ذلك الوقت، قفز عليها (هذا هو بالضبط ما فعله حفيده بعد ذلك بمائة ألف عام، عندما خرج من الحمام وفوجئ بقطعة شوكولاته على هيئة إنسان فقفز عليها)، صرخت الأنثى، انهالت عليه ضربا وهو يصرخ هو أيضا، انهال عليها ضربا فنزلت فيه عضا وخمشا بأظافرها الطويلة، هكذا دارت المعركة بينهما بينما هو يسحبها إلى الكهف.

خرج دومينيك من الحمام ففوجئ بأنثى أيقظت بداخله انفعالات وأفكار الغابة الراقدة في أعمق أعماقه، في لحظة طارت في الهواء كل قيود الحضارة التي عجز طوال عمره عن الاستسلام لها.

لقد درست ملامح الرجل جيدا في اللقطات التي ظهرت على الشاشة الصغيرة بينما هو يقف أمام القاضية في المحكمة في نيويورك، هناك على وجهه بالطبع مسحة واضحة من الإحساس بالخجل والعار، ربما ضاعف منها أن القاضية كانت أنثى، وكأن الأقدار أرسلت له أنثى لتثأر منه لأنثى أخرى. غير أن ما لفت نظري حقا هو أمارات المعاناة المحفورة على وجهه، هي ليست معاناة ناتجة من الكارثة التي حلت عليه، بل هي قديمة؛ وكأنها صاحبته في مشوار حياته، أخاديد وتكسرات وحوارٍ وزنقات تجمعت على سطح وجهه لترسم صورة بليغة لأعلى درجات التعاسة والإجهاد العصبي. من المستحيل أن تكون مهام وظيفته هي مصدر هذه التعاسة الكونية، أنا أعتقد أن هذا الرجل عاش طوال عمره في حالة صراع دائم مع عدو اسمه الحضارة، وبهذه القضية يكون قد أثبت بالفعل أنه قد انتصر على الحضارة وحافظ على موقعه القديم في الغابة.

هكذا نستطيع فهم الكلمة التي استخدمها فرويد (discontent) وهي تعني عدم الرضا، الاستياء، غياب الشعور بالارتياح، المكابدة.. هو عذاب دائم عاش الرجل في قبضته طوال عمره، وعلى الرغم من كل ما حققه من نجاح على مستوى الدور والوظيفة، فإنه كان يشعر بالعذاب الدائم الناتج من رفضه الالتزام بما تفرضه الحضارة، كل أنثى كان يراها – في ما عدا زوجته التي يقال عنها إنها من جميلات فرنسا - كان يشعر برغبة قوية فيها، وبالتالي كان يبذل مجهودا عصبيا كبيرا لإخفاء هذه الرغبة، أو على الأقل السيطرة عليها، بالطبع هناك عدد من المرات فشل فيها في السيطرة على نفسه، غير أنه كان ينجح في الإفلات بسجله نظيفا، هذا القدر الهائل من الإجهاد العصبي كان لا بد أن ينهار في لحظة؛ وهذا هو بالضبط ما حدث في الفندق.

انظر حولك، سيكون من السهل عليك أن تقرأ ملامح الوجوه التي يعاني أصحابها من عذاب الحرب ضد الحضارة، وهو ما تصفه المقولة الشعبية في براعة «فلان.. وجهه عليه غضب ربنا» ما نسميه غضب الله سبحانه وتعالى هو بالتحديد العمل ضد قيم الإنسان العليا، أي ضد الحضارة. لا يجب الخلط بين التقدم والتحضر، كما يجب الاعتراف بأن القدرة على الحفاظ على الرقة والتهذيب في مواجهة موقف صعب هي أعلى درجات التحضر. على كل منا أن يراقب بداخله كل أنواع العدوان الذي كان يمارسه في الغابة من آلاف السنين، عندما يحدث ذلك فمن المؤكد أننا لن يضرب بعضنا بعضا في البرلمان. إن مشكلة دومينيك هي أنه لم يكن مهذبا. التهذيب هو أعلى قيم الحضارة لأنه يعني ببساطة الاعتراف بأن الآخر له نفس الحقوق التي نزعمها لأنفسنا. كل من يفتقر إلى الرقة والتهذيب ينتمي للجزء الوحشي في الغابة التي سكناها منذ مائة ألف عام.

مشكلة دومينيك أنه في مقاومته للحضارة، لم يتنبه إلى أن هذه السيدة الغينية لها نفس الحقوق التي يتمتع بها هو.