(الجربوع) يحكي ذكرياته

TT

من ذكرياتي ذكريات غير مشرفة أشك أنها سوف تنتهي في القريب العاجل - هذا إلا إذا أطلق علي أحدهم يوما مدفع (بازوكا) وأرداني قتيلا مضرجا في (حبري) - فساعتها من دون شك سوف أصمت وأذهب (يا حسرة) غير مأسوف على حالي.

وأعترف قبل أن ينبهني أحد إلى ذلك، أقول: إنني أعترف أن تلك الذكريات (الحقيقية والكاذبة) لا تقدم ولا تؤخر، (ولا توكل عيش)، ولا تحل مشكلة، ولا تدعي وطنية، ولا، ولا، ولا، ولا، إلى آخر ما هنالك من (اللاءات) العقلانية والأخلاقية، فربي خلقني هكذا: (غير ملتزم). ومن تلك الذكريات - أو بمعنى أصح - تلك (الترهات) أن أحدهم طلب مني يوما أن أذهب به إلى طريق (الشفا) - والشفا لمن لا يعرفها هي جبال شاهقة جميلة تقع جنوب الطائف، وفي الطريق عرفت منه أنه أولا وأخيرا يريد أن يلقي نظرة على معشوقته التي يحبها حبا عذريا مفرطا، وكانت ذاهبة مع أهلها في رحلة (كشتة) - أي (باربيكيو) - وقبل أن نصل إلى الشفا، طلب مني أن أتوقف، فامتثلت لأمره، ونزل هو من السيارة ومعه منظاره المكبر، يريد أن يرصد من بعيد معشوقته مع أهلها الذين كانوا جالسين تحت الأشجار الوارفة الظليلة في واد سحيق، غير أن أخينا بالله ومن شدة حماسته ولهفته قد زلت قدمه وتعثر، وإذا به يهوي (ويتدردب) رأسا على عقب من ذلك المرتفع الشاهق، ويبدو أن رجال العائلة قد انتبهوا لذلك الرجل الغريب الذي سقط عليهم، فهبوا جميعا لنجدته بكل شهامة، في الوقت الذي أصابني فيه أنا الرعب خوفا من المساءلة، وبدلا من أن أهب لنجدة رفيقي ما كان مني إلا أن ألوي عنق السيارة، وأنطلق بها وحدي مسرعا وراجعا نحو الطائف مرددا: (يا روحي ما بعدك روح)، وعدت إلى منزل أهلي أحمد الله على السلامة، ونمت ليلتها قرير العين وكأن شيئا لم يكن. وفي اليوم الثاني عرفت أن رفيقي العاشق التعيس يرقد في مستشفى الملك فيصل في حارة البخارية من جراء بعض الكسور والجروح والكدمات التي تلقاها بسبب سقوطه الغبي والمخجل. ومع ذلك وبكل (قواية عين) ذهبت كي أزوره وأطمئن عليه، غير أنه مع الأسف جابهني بالصد، بل ورفض أن أجلس في الكرسي المقابل للسرير الذي كان منطرحا عليه، وقال لي بالحرف الواحد: لو سمحت اخرج من هنا فهذا هو آخر ما بيني وبينك، ومن يومها وإلى الآن انقطعت الصلة بيني وبينه، ولا أدري هل ذلك يعتبر نذالة منه أم نذالة مني؟!

وحال ذلك الرفيق، الذي كان صديقي، أرحم من حال ذلك العاشق العامل في (سنغافورة) الذي ارتبط بعلاقة مع خادمة منزلية، واستغل فرصة خروج مخدوميها من الشقة، وتسلل لكي يتطارح الغرام مع معشوقته، ومن سوء حظه أن أهل المنزل عادوا فجأة، فما كان من صاحبته إلا أن تأمره أن يجلس على حافة النافذة في الطابق الثامن، ثم أغلقت النافذة عليه لتخبئه، وذهبت هي لتقوم في عملها الروتيني لكي لا تلفت أنظار أصحاب المنزل، وبقي المسكين خمس ساعات كاملة وهو (متقرفص) على حافة النافذة التي لا يزيد عرضها على 30 سنتيمترا. غير أن سكان العمائر المقابلة، وكذلك بعض العابرين في الشوارع لفت نظرهم ذلك الرجل الجالس على حافة النافذة، فاعتقدوا أنه يريد الانتحار، فما كان منهم إلا أن يتصلوا بالبوليس، الذين سارعوا لأصحاب الشقة وفتحوا النافذة على ذلك العاشق المرتجف الذي كان بين الحياة والموت، وسقط المسكين من شدة فرحته في داخل الغرفة مغشيا عليه.

وأحمد ربي سبحانه وتعالى أنني لم أتورط طوال حياتي العاطفية (الدراماتيكية) في هكذا مواقف غبية، لسبب بسيط وهو أنني ولا فخر أقتدي بمثلي الأعلى (الجربوع)، فليس لجحره منفذ واحد، وإنما له عدة منافذ.

[email protected]