أبوها!

TT

الذين تابعوا جلسة اختيار الدكتور نبيل العربي، أمينا عاما للجامعة العربية، يوم الأحد قبل الماضي، ربما لاحظوا أن أحدا من الذين تحدثوا خلال الجلسة، لم يتطرق بشكل أساسي، إلى الجامعة، كجامعة، أو كمؤسسة إقليمية كبيرة، وكيف يمكن أن تنهض بدور مختلف في المستقبل، وإنما كان الكلام كله، تقريبا، عن عمرو موسى الذي كان، ثم عن نبيل العربي الذي سوف يكون!

ليس هذا فقط، وإنما طوال شهور مضت، كان الخلاف بين العواصم العربية دائرا حول شخص الأمين العام المقبل، وحول البلد الذي ينتمي إليه، ولم يكن الكلام يمتد إلى شيء أبعد من هذا أبدا، وكانت الجامعة، كجامعة، غائبة، وكان المهم، بل الأهم، أن يأتي الأمين العام، وكان اسمه هو الموضوع المسيطر، وكان بلده أيضا، هو القضية الشاغلة لنا، في حين أن اسمه ليس هو المهم، وفي حين أن بلده ليس الأهم، وإنما الجامعة هي التي يجب أن ننشغل بها، إذا كنا حقا نريد رابطة إقليمية تعمل على مستوى أعضائها، كما يعمل الاتحاد الأوروبي حاليا على مستوى أعضائه.

إن أول خطوة تفكر فيها الحكومات الجديدة في تونس، أو القاهرة، بعد ثورة 14 يناير (كانون الثاني) في الأولى، وثورة 25 يناير في الثانية، هي وضع دستور جديد للبلاد، بحيث يؤسس لعلاقة مختلفة بين الحاكم والمحكوم، وأغلب الظن، أن هذه الخطوة نفسها، سوف تكون هي الشاغل لحكومات كثيرة، في عواصم عربية أخرى على الطريق.

ولذلك، فإذا كانت حكوماتنا العربية تراجع دساتيرها في هذه اللحظة، مدفوعة بثورة هنا، أو هناك، فإن الجامعة عليها هي الأخرى، أن تراجع ميثاقها الذي هو دستورها، لأنه كميثاق، كان قد خرج إلى النور، عام 1945، في الوقت ذاته الذي كانت أغلب دساتير البلاد العربية، قد تأسست، في أعقاب حركات التحرر والاستقلال.

وإذا كان الأمين العام للجامعة، هو بمثابة قائد سيارة، فإن السيارة نفسها، التي هي الجامعة، لم تعد بحالتها الراهنة، ولا بميثاقها القائم، قادرة على أن تسعفه في أي حركة فاعلة، بين عاصمة عربية وأخرى.. وما فعلناه، كعرب، يوم الأحد قبل الماضي، أننا غيرنا قائد السيارة، دون أن نلتفت إلى أن المشكلة لم تكن قط، في قائدها، ولن تكون، وإنما هي في السيارة، ومدى ملاءمتها للطريق الذي تجري عليه، وقدرة أجهزتها على أن تسابق سيارات أخرى على الطريق نفسه!

الاتحاد الأوروبي يضم 27 دولة، وتضم الجامعة 22 دولة، وقد نشأ الاتحاد، تاريخيا، على أساس من السوق الأوروبية المشتركة، التي كانت قد سبقته بين الدول الأعضاء ذاتها تقريبا، وقبل السوق، كانت الفكرة تراود أهل الفكر في أوروبا، لفترة، حتى شاء الله لها أن تتجسد في السوق أولا، ثم في الاتحاد ثانيا، وكلتا الخطوتين كانت ولا تزال، موضع إعجاب العالم، من حيث القدرة على العمل الجماعي المنجز بين الدول!

ولا يفصل بين أغلب أعضاء الاتحاد الأوروبي، وبين أكثر أعضاء الجامعة العربية، سوى البحر المتوسط، بل إن هناك كيانا إقليميا ثالثا، هو الاتحاد من أجل المتوسط، الذي يضم أعضاء الاتحاد الأوروبي جميعا، مع أعضاء من الجامعة، بما يعني أن المسافة بين الاتحاد الأوروبي، وبين جامعة الدول العربية، يجب أن تكون قريبة، على مستوى الأداء العام إزاء أي مشكلة تواجهنا نحن، كعرب، بشكل عام، وتواجه الجامعة بشكل خاص.

ومع ذلك، فأنت حين تقارن ـ مثلا ـ بين مشكلة واجهت الاتحاد، على مستوى أعضائه، وبين مشكلة أخرى واجهت الجامعة، على مستوى أعضائها أيضا، فسوف تكتشف أن النجاح كان حليفا هناك، وأن الإخفاق كان هو الحصيلة هنا.

وليس أدل على ذلك، من الطريقة التي يدير بها الاتحاد الأوروبي، حاليا، ثلاث أزمات مالية تواجهها ثلاث دول من أعضائه، هي اليونان، وآيرلندا، ثم البرتغال.. فمنذ أن بدأت أزمة اليونان، في صيف العام الماضي، ثم جاءت من بعدها آيرلندا، وبعدهما البرتغال، منذ تلك اللحظة، وهناك رغبة صادقة، ثم أداء منضبط، وإيقاع منتظم، من جانب الاتحاد، في اتجاه إنقاذ الدول الثلاث، من إفلاس مؤكد، كانت كلها، أو بعضها، في الطريق إليه.

في المقابل، نجد أن عندنا أكثر من ثلاث دول، في حاجة إلى تدخل من النوع نفسه، من جانب الجامعة، لإنقاذها كدول، من التدحرج إلى مصير الدول الفاشلة، وليس أولى هذه الدول، اليمن، ولا آخرها موريتانيا، ولكن بينهما أكثر من دولة عربية، كانت الجامعة العربية، ولا تزال، هي الجهة الأولى المنوط بها التدخل سريعا، للأخذ بيد أي دولة تجد نفسها في وضع أسوأ من أوضاع اليونان، أو آيرلندا، أو البرتغال.

وسوف نظلم نبيل العربي كثيرا، إذا طلبنا منه أن يقوم بهذا الدور، من خلال الجامعة بميثاقها الحالي، الذي وضعناه عام 1945، ثم استمر على حاله، كل هذه السنين. إننا نضحك على أنفسنا، إذا تصورنا أن هذا ممكن، ونضحك على أنفسنا أكثر وأكثر، إذا تخيلنا أن هذه الأماني الكبيرة المعلقة على كاهل الأمين العام الجديد، يمكن أن يكون لها وجود في الواقع، دون أن يكون تعديل الميثاق، خطوة سابقة، وسريعة، وعاجلة!

وإذا كان يقال دائما عن الدستور، في حالة الدولة، إنه «أبو القوانين»، فإن الميثاق، في حالة الجامعة، هو ـ بالقياس ـ أبوها، ويستحيل أن تلعب الجامعة دورا ينتظره منها كل العرب، في السنوات الخمس المقبلة على الأقل، وهي مدة ولاية الأمين العام الجديد، ما لم يكن تعديل الميثاق، على رأس أولوياته، كأمين عام يخطو خطواته الأولى في بهو جامعته!

وإذا كان هناك تعديل سوف يتم في الميثاق، وهو تعديل لا بديل عنه في كل الأحوال، فلا بد أن يكون تعديلا من أجل أن يكون للجامعة دور يحس به كل عربي، على امتداد 22 عاصمة عربية، لا أن يكون تعديلا يؤدي إلى الأسوأ، لا قدر الله، كما كان يحدث كثيرا عندما كانت بعض الدول العربية تقرر تعديل دساتيرها، ولا أن يكون تعديلا من أجل التعديل في حد ذاته، فالتعديل الذي لا مفر من إجرائه على الميثاق، في الوقت الحالي، ليس هدفا في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لأن تكون الجامعة العربية، جامعة حقا، لا أن تكون ناديا، أو أقرب إلى النادي!

وإذا كان هناك ملمح أساسي، لأي تعديل من هذا النوع، فهو أن تأخذ الجامعة العربية، من سيادة الدول العربية، وتضيف إلى سيادتها هي كجامعة، فهذا هو الحاصل حاليا في الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، وبالتالي، فلا سبيل إلا أن تدرك كل عاصمة عربية، أن تنازلها بعض الشيء، في الميثاق الجديد لصالح الجامعة، إنما هو لصالحها، كعاصمة، ثم هو أيضا لصالح سائر العواصم الشريكة في الجامعة، وعندها، سوف يكون في مقدور الأمين العام الجديد، أن يؤدي، وأن يلعب دورا، وأن ينقذ بلدا.

الكلام في عام 2011، عن «العمل العربي المشترك» أو عن «التعاون العربي» وعن «الوحدة العربية» دون إلحاق تعديل أساسي على الميثاق، سوف يظل كلاما بلا معنى، وبلا مضمون، وبلا عائد ملموس في حياة أي منا، وإذا كان 85 مليون مصري، قد علقوا آمالا عريضة على الدكتور نبيل العربي، يوم جاء وزيرا للخارجية في القاهرة، فالآمال قد انتقلت ابتداء من يوم اختياره أمينا عاما، لتداعب خيال أكثر من 300 مليون عربي، وسوف يكون إحياء هذه الآمال ممكنا، إذا كانت البداية من عند الميثاق، وليس من عند أي شيء آخر، بشرط أن تستلهم هذه البداية، روح الاتحاد الأوروبي، فتجربته موجودة، ومتاحة، وتغري بالأخذ عنها دون تباطؤ، لأن ظروفنا لا تحتمل الانتظار!