الزحف الشعبي يؤسس لحالة نضالية جديدة

TT

يمكن القول إن الحدث الشعبي بالزحف نحو حدود فلسطين في 15 مايو (أيار) الحالي، هو حدث رمزي. وهو بالتأكيد كذلك. ولكن هناك أحداثا رمزية تتحول إلى فعل دائم ومتطور. وانطلاقا من هذا الاحتمال يمكن القول إن هذا الحدث الرمزي سيؤسس لأسلوب جديد في النضال ضد إسرائيل. ويمكن التوقع أيضا بأنه حدث سيتكرر، حاملا معه جملة من المعاني التي تزعج إسرائيل وتقلقها.

لقد بدأت فكرة «الزحف» كفكرة رومانسية، أقدم عليها شباب فلسطينيون وعرب، خرجوا من لبنان وسوريا والأردن ومصر نحو الحدود، وكان البارز فيها ما حدث عبر لبنان وسوريا؛ شباب في منتصف العشرينات، يتحركون بحماس صوفي ملفت للنظر، يندفعون نحو الحدود، حيث يقف الجنود الإسرائيليون مدججين بالسلاح، ومن دون ظواهر الخوف أو التردد التي ترافق عادة مثل هذه التحركات.

في لبنان، وعند نقطة مارون الراس الحدودية، لم يكن الشباب فقط موجودين هناك، إذ تواجد معهم حشد من الأمهات. قال شهود عيان إنهن كن يحمسن أبناءهن على التقدم نحو الحدود، وإذ اعتاد الناس أن يجدوا شباب المخيمات في مقدمة نشاطات كهذه، إلا أن أساتذة جامعيين لبنانيين كانوا يرافقون شباب المخيمات هذه المرة. وكانت الشجاعة حاضرة في قلب المشهد. الشباب يتقدمون بكثافة نحو سياج الحدود، ونحو الجنود الإسرائيليين الجاهزين لإطلاق النار، ومن دون أن يؤثر ذلك على حماسهم واندفاعهم. وعبر ذلك عن حالة نفسية جديدة، هي التي يجب أن نتوقف عندها ونراقبها وندرسها، فهذه النفسية هي أمر جديد مؤهل لتوليد زخم مستقبلي.

عند قرية مجدل شمس في الجولان، تكرر المشهد نفسه، وقال شهود عيان من أهل المنطقة، إنهم استقبلوا الشباب بأحضانهم، وحاولوا وقفهم عن التحرك حتى لا يقتربوا من نقاط يصبحون عندها تحت مرمى الجنود الإسرائيليين، ولكنهم فوجئوا بالشباب يرفضون ذلك، ويندفعون نحو سياج الحدود، ويقتلعونه بأيديهم. وفوجئوا بالشباب وهم لا يكترثون بالرصاص الذي بدأ ينهمر عليهم، فواصلوا التقدم عبر السياج، ومن حولهم رفاق لهم استشهدوا أو سقطوا جرحى. روح جديدة لم نعتد عليها، وروح جديدة فاجأت أهل الجولان، الصامدين تحت نير الاحتلال منذ سنوات طويلة. دفعت هذه الروح شابا فلسطينيا كي يدخل إلى فلسطين، وأن يتجه نحو يافا؛ بلدة أبيه وأمه، وأن يتم اعتقاله هناك. رحلة هذا الشاب، وإصراره على إتمامها أمر جدير بالتمعن والدرس، لأنه أمر سيكون له ما بعده، إذ تولد أمام أعيننا روح جديدة هي التي ستكون روح المستقبل، وهي التي ستكون المحرك الجديد لأحداثه.

هذا الأسلوب الجديد بالنضال (الزحف)، وهذه الروح الجديدة من الإقدام، أصابت الجنود الإسرائيليين بالحيرة، حتى على مستوى ضباطهم؛ فلم يعرفوا كيف يجب التصرف، إلى أن عادوا إلى أسلوبهم القديم بإطلاق النار على المدنيين. الصحف الإسرائيلية كتبت عن الضباط الإسرائيليين قائلة إنهم كانوا مطأطئي الرؤوس، لا يعرفون ماذا يفعلون. حالة من الحيرة والخوف سيطرت عليهم. وامتد هذا الخوف إلى داخل إسرائيل كلها، وبرز السؤال؛ ماذا لو تكرر الأمر بكثافة بشرية أكبر؟ وهذا السؤال الذي يبدو بسيطا الآن، قد يصبح في زحف قادم حدثا استراتيجيا، ثم حدثا عالميا، لا تملك إسرائيل جوابا فعليا ضده.

في اليوم التالي، انتقل هذا الحدث بكل زخمه إلى مخيم اليرموك قرب دمشق، كان يوم التشييع للشهداء، ولكنه كان أيضا تشييعا من نوع خاص؛ خرج الناس بكثافة ملفتة للنظر ليسيروا في الجنازة، ومن لم يخرج من منزله، كان يقف على الشرفات، أو على النوافذ، يرش الأرز أو يرش العطر على المشيعين، حتى ليمكن القول إن كل من هو من أهل المخيم قد شارك في التشييع، وهو أمر لم يحدث من قبل بهذه الكيفية، على الرغم من أن المخيم اشتهر بكثافة عدد الشهداء الذين قدمهم للنضال الفلسطيني. كان التناغم هذه المرة بين «الزحف» والتشييع فريدا من نوعه. وكان التفاعل بين الأهالي ومبادرة أبنائهم الشهداء ينبئ بحالة نفسية جديدة تولد في شوارع المخيم، بعد سكون دام لسنوات. ولكل هذا يمكن أن نقول، مرة أخرى، إن الزحف الذي بدأ من شأنه أن يتحول إلى حالة دائمة، تفرز من داخلها تطوير أساليبها النضالية الجديدة، تدشن بدء مرحلة جديدة في المواجهة الفلسطينية والعربية مع الكيان الصهيوني، وهي مرحلة ستطرح على الإسرائيليين أسئلة لا يملكون أجوبة عنها، بل أسئلة لا توجد أجوبة إسرائيلية عنها.

وفي محاولة إضافية لفهم حدث الزحف وتحليله. هناك من يقول إنه تأثر بحالة الحراك الشعبي الذي هز العواصم العربية من تونس إلى القاهرة بشكل خاص، وأنه تكميل لها. وقد يكون لهذه الملاحظة شيء من الصحة، ولكن المسألة تتجاوز التأثر أو التقليد أو التكرار، إذ لا يمكن للتأثر أو التقليد أو التكرار أن ينتج حركة شعبية تبقى حية، ثم تنمو وتتطور، وتصبح علامة فارقة في مجريات النضال. وقد حدث هذا الحوار الفلسطيني قبل أسابيع، ووجد من قال: «نحن لا نحتاج إلى التقليد أو التكرار، بل نحتاج إلى نشاط فلسطيني، بعنوان فلسطيني، وبمضمون فلسطيني. وهذا هو بالذات ما حدث من خلال فكرة الزحف، ثم تبين على أرض الواقع كم كانت هذه الفكرة عميقة التأثير في نفوس الناس، حتى إنها حركتهم بالطريقة التي تمت».

وبما أن الأحداث لا يمكن فصلها عن بعضها بعضا، خاصة في عصر العولمة الذي نعيشه، فإن خطاب باراك أوباما الأخير، يشكل حالة تفاعل دولي مع حدث الزحف الفلسطيني، ولكنها حالة تفاعل سلبي مع الأسف. لقد حاول أوباما أن يتفاعل مع الحراك العربي كله، احتواء أو تهديدا، ولكنه تجاهل موضوع الحراك الفلسطيني، ولم يتطرق إليه بكلمة واحدة، وكأنه غير موجود. ولم يجد ما يقوله للشعب الفلسطيني سوى أنه يؤيد مطالب إسرائيل في كل ما يخص قضيتها. فهو يريد دولة فلسطينية، ليس على حدود 1967، بل على «أساس» حدود 1967، موضحا ضرورة تبادل الأراضي بما يضمن أمن إسرائيل، ومشيرا خفية إلى بقاء الاستيطان حسب صيغة الرئيس جورج بوش، أي أخذ التغييرات الديموغرافية (الاستيطان) بعين الاعتبار. كذلك لم يجد أوباما حرجا في أن يحذر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، من مغبة الذهاب إلى الأمم المتحدة ليطالب باعتراف دولي بدولة فلسطين على حدود 1967. وقد اعتدنا أن تشجع هذه المواقف الأميركية السلبية توليد حالات غضب فلسطينية، ولكن الغضب، هذه المرة، يعبر عن نفسه بالزحف الشعبي. وهو أمر لن يستطيع أوباما أن يتجاهله طويلا.