«إعلان الرياض» لا يمثل موقف الرياض

TT

أشعر بالامتعاض حينما يرتبط اسم مدينة «الرياض» بحدث تحوم حوله التساؤلات وتشوبه الشوائب، صحيح أن عواصف الرياض الترابية جعلتها مدينة غير واضحة الرؤية البصرية، ولكنها دائما صافية الرؤية الفكرية والمنهجية.

قصة هذا الضيق بدأت منذ نحو شهر، حينما اجتمعت صفوة عالمية منتخبة من الأكاديميين وراسمي سياسات التعليم العالي في مؤتمر حول هذا الشأن عقد في العاصمة السعودية الرياض، وخرج المؤتمر الدولي بما عرف باسم «إعلان الرياض» الذي فاجئنا بأن وضع نظام تصنيف الجامعات في دائرة التحفظ باعتباره يسيء للمناخ الصحي للجامعة التي يفترض أن يقاس مستوى أدائها - بحسب الإعلان - بحجم إسهامها في الاقتصاد المعرفي وليس بتصنيفات تركز على البحث العلمي.

من حينها وأنا أحاول فهم هذه الخلاصة التي وصل إليها المؤتمر، لأن المتابع للجلسات والمستمع لآراء المؤتمرين، والقارئ للنشرات التي صدرت من وزارة التعليم العالي خلال أيام المؤتمر سيجد أنها على النقيض من إعلان الرياض!

الإعلان كما هو واضح يفصل ما بين الاقتصاد المعرفي والبحث العلمي، ويراهما شيئين مختلفين، وهو أمر غير صحيح، فلا يوجد دولة واحدة في العالم تمتلك اقتصادا معرفيا إلا وكانت بنيته قائمة على قاعدة صلبة من البحث العلمي والتطور التقني، لأن الحقيقة المسلم بها أن الاقتصاد المعرفي هو الابن الشرعي للبحث العلمي.

التصنيفات العالمية مثل كأس العالم لكرة القدم، مسابقة عالمية لتمايز المنتخبات أيها الأفضل والأجدر بالمركز المتقدم، أي إنها وسيلة للقياس ودلالة على المستوى ولكنها ليست هدفا أوحد بذاتها، لذلك فالدول لا تطور منتخباتها لتنال كأس العالم فقط بل لأن الرياضة أحد أهم أوجه الأنشطة الإنسانية الهامة التي تسعى الدول لأن تبرع فيها.

المفارقة أن وزارة التعليم العالي بقيادة الوزير الدكتور خالد العنقري تنفق بسخاء على البحث العلمي، وتدعم بقوة غير مسبوقة تحسين مواقع الجامعات السعودية في التصنيف العالمي، وأزعم أنني أعرف هذا الرجل الحكيم المتزن، وأعرف مقدار تطلعاته وآماله في مؤسسات التعليم العالي السعودية، وقد عدت إلى ذاكرتي القريبة، حينما كنت ضمن مستقبلي رئيس جامعة السوربون في مقر وزارة التعليم العالي بالرياض قبل أربعة أشهر، واستمعت خلال الاستقبال إلى كلمة الوزير التي تضمنت إشادة استثنائية بتحقيق جامعة الملك سعود لمراكز تتقدم عاما بعد عام في تصنيف شنغهاي المتعلق بالبحث العلمي، وقد سمعته غير مرة يؤكد على قيمة التصنيف العالمي كان آخرها خلال مؤتمر صحافي رافق انعقاد مؤتمر الرياض حينما أعلن الوزير أن عدد الجامعات والمنظمات الدولية التي ستشارك هذا العام بلغ 371 جامعة من بينها 56 جامعة مصنفة ضمن أفضل 100 جامعة في العالم وفقا لتصنيف شنغهاي.

طبعا هذا بخلاف موقف مجلس الوزراء السعودي المبارك لدخول الجامعات السعودية التصنيفات العالمية، وموقف وزارة الاقتصاد والتخطيط التي وضعت الاقتصاد المعرفي المنبثق عن البحث العلمي أساسا لتنويع الدخل الوطني في خطة التنمية الأخيرة.

وإن قال قائل بأن هذه مواقف محلية غير ملزمة لبقية ضيوف المؤتمر الذين حضروا من كل أنحاء العالم، سأقول هذا صحيح، ولذا نعتب على كاتب «إعلان الرياض» أن كثيرا من متحدثي المؤتمر الأجانب كانت لهم نظرة إيجابية قوية تجاه التصنيفات الجامعية، بل رأوا ضرورة استمرارها لتعزيز التنافسية بين الدول لإثراء مخرجات البحث العلمي، إلا أن الإعلان تجاهل رؤية هؤلاء رغم أنها صدرت من مختصين مغمورين، أقتبس كمثال لهم ما ذكره الرئيس الفخري لجامعة فرجينيا حول نظام الجامعات الأميركية: «تكمن نقطة القوة الأكبر لهذا النظام في طبقاته العليا، أقصد بذلك الستين جامعة أو أكثر التي تشكل اتحاد الجامعات الأميركية، ومجموعة صغيرة من الجامعات الأخرى، فهذه الجامعات تتميز بأنها أقدم وأكثر نضجا من غيرها من الجامعات في الطبقة التي تليها، وتتميز ببرامج جامعية قوية للغاية ينشأ عليها عدد كبير من قادة الأمة، كما أنها تدار بعناية وحزم بالغين، ولذا فإن مواردها تتماشى مع الرسالة التي ترغب في تحقيقها، إلى جانب أنها تستثمر بسخاء لإدخال كلياتها في التصنيف العالمي».

فإن كان هذا موقف الكثير من المتحدثين الأجانب، وكذلك موقف الدولة، فعلى أي أساس إذن تمت صياغة إعلان الرياض؟؟

نظام التصنيفات الجامعية ليس اختراعا من الجامعات السعودية حتى يتفيقه حوله المنظرون المحليون، بل هو نظام عالمي مرموق، وسباق علمي محموم، لا يدخله إلا من حقق معايير عالمية بشواهد وأرقام، صحيح أنه يركز أكثر على البحث العلمي دون العملية التعليمية، ولكن هذه التخصصية لا تزعزع من قيمته شيئا، لأن الجامعات السعودية الكبيرة ملأت هذه الخانة بحصول كلياتها على الاعتماد الأكاديمي المرادف من حيث القيمة المهنية للتصنيف العالمي البحثي.

في جامعة هارفارد التي تحتل منذ سنوات متتالية المركز الأول في تصنيف شنغهاي سألت أحد منسوبيها: هل يمثل لكم التصنيف العالمي هاجسا؟ اندفع في الإجابة: بالطبع لا، منذ سنوات لم نعد نكترث لهذا الأمر، ولكن تأكدي أن هارفارد لو تراجعت للمرتبة الثانية في تصنيف السنة القادمة فستثور على نفسها، لأنها لن تقبل أن تتراجع عن مقعدها الأول نصف قدم. هذا بكل غرور، رأي هارفارد.

«إعلان الرياض» شكّل صدمة للجامعات السعودية المتميزة، لأنه أولا لا يمثل الواقع ولا الطموح الوطني، ولأنه ثانيا أثار الريبة في النفس، ولأنه ثالثا أحبط العزائم القوية، ولأنه رابعا طرح سؤالا صريحا: ما الذي يحدد ما يصلح وما لا يصلح؟ هل هي أرقام مخرجات العرض والطلب التنموية، أم إشكالات التنظير؟

هل كُتب «إعلان الرياض» على عجالة دون قصد ما ذهب إليه؟ أم أنه مؤشر خطير على نية تخفيض الإنفاق على البحث العلمي في الجامعات السعودية والعودة بنا إلى نقطة الصفر؟

كلي أمل أن يخلق هذا الإعلان إرادة قوية عكسية في نفوس الطموحين من صنّاع القرار وقادة الجامعات السعودية المتقدمة، حتى وإن كانت هذه الإرادة خلقت من ضلع أعوج.

* كاتبة وأكاديمية سعودية

- جامعة الملك سعود

[email protected]