العلوم الاجتماعية والإنسانية.. وفهم الواقع العربي

TT

للعلوم الاجتماعية والإنسانية دور مهم في فهم شخصية الأفراد وواقع وبنية المجتمعات. وقد أكدت الثورات والمظاهرات الأخيرة التي حدثت في الشارع العربي ولا تزال، على ما يعانيه الأفراد والمجتمعات المكبوتة من مشكلات اجتماعية وسياسية، يجب معالجتها بأساليب علمية تستند من بينها إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية، وليس إلى سياسات وقوالب فكرية جامدة وجاهزة تحبذ مواجهة العنف بالعنف المضاد لفرض توجهاتها وأهدافها وسيطرتها على الفرد والمجتمع.

في النظم الديمقراطية الحديثة التي تحترم الأفراد، تتم دراسة جوهر وشخصية الإنسان والتعرف على سلوكياته واتجاهاته، وكذلك بنية المجتمع للاستفادة منها في وضع نظم وقوانين الحكم وتكييف أساليبها وتطويعها لتتماشى مع وضعية هؤلاء الأفراد وطبيعة المجتمع، فالدولة الحديثة تستند لنظم ومؤسسات تقر بأن هناك حقوقا وواجبات بين الدولة والفرد والمجتمع، لتحقيق المصالح ومبادئ العدل والمساواة، بينما النظم المستبدة والديكتاتورية، قد لا تهتم كثيرا بدراسة الإنسان وطبيعته وبنية المجتمع الذي يوجد فيه، إذ تهيمن عليه وتكبته وتقمعه عن أن يعبر عن رأيه بحرية وأمان، وتتسبب في إحساسه المرير بالظلم والمعاناة والغربة داخل وطنه، فالجهل بمعرفة طبيعة وشخصية الفرد وبنية المجتمع قد يكون أحد الجوانب المهمة في فهم وتحليل أسباب وخلفية الثورات والتظاهرات والتحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى المتسارعة التي يمر بها العالم العربي حاليا، ولهذا قد تستغل بعض الجهات والأفراد الثغرات الموجودة في بنية المجتمعات، لإحداث المزيد من الإضعاف والإرهاق لزعزعة أمن واستقرار بنية المجتمع.

الآن، لم يعد الجمود والسكون واللامبالاة النماذج الأفضل للعيش في المجتمعات، والتي تولد لدى الأفراد الإحساس بالضعف والانكسار والمهانة والظلم، وتزرع فيهم بذور الكبت والقهر والحقد والانتقام والكراهية والعدوان والعدائية والتي تتراكم داخله لتنتظر الفرصة المواتية للانتقام وتخريب كل ما له علاقة بالدولة، بل لا بد لاحترام الأفراد وتطور المجتمعات من السماح بالحراك والتفاعل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات وأنظمة ومؤسسات الدولة والحكم، تفاعل يلغي الحدود والحواجز الفاصلة بين الأفراد وأجهزة السلطة، لإحلال مفاهيم حقوق الإنسان والمواطنة الحقيقية من حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية ومساواة، ليسهم في النهاية في زرع بذور ومفاهيم الحب والتسامح والثقة والاحترام والانتماء والوفاء وغيرها من أنماط وسلوكيات سوية تفيد في إحداث التنمية البشرية وتطوير المجتمعات.

في بعض المجتمعات العربية، قد تكون العلوم الاجتماعية والإنسانية مهمشة وقد تنتقص الأنظمة من دورها في الاهتمام بالأفراد وتطوير المجتمعات، فالأنظمة السياسية قد تعتبر أن أبحاث من يشتغلون من علماء العلوم الاجتماعية والإنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس في موضوعات مثل بنية المجتمعات والصراعات وأساليب التغيير والتحولات والصراعات، مثار شك بأن لديهم أجندات سياسية مخفية من وراء القيام بهذه الأبحاث والدراسات. لم تعد دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية ترفا، بل أصبحت ضرورة معرفية وفكرية مهمة لدراسة الإنسان، وفهم واقعه وبنية المجتمعات ودراسة وتحليل ديناميات الأفراد والجماعات ومسألة الصراعات وأسباب اختلال منظومة القيم، حفاظا على استقرار المجتمعات واستمراريتها.

خلاصة القول: لقد أصبحت هناك حاجة قائمة وملحة للاهتمام الواعي بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، من خلال مراجعة الأنظمة العربية، مراجعات متكاملة شاملة ودقيقة، كل حسب ظروفه وحالته، لبحث أفضل الأساليب والسبل لتقوية بنية المجتمع وفهم سلوك الأفراد، وتشجيع أبنائنا على دراسة والالتحاق بكليات وأقسام العلوم الاجتماعية والإنسانية، مع إفساح المجال واسعا للمتخصصين في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية للقيام بدورهم ومهمتهم لدراسة وفهم السلوك الإنساني ووضع برامج خاصة لإشاعة القيم والمفاهيم الإنسانية والمجتمعية التي تسهم في صلاح الفرد وبنية المجتمع.