الغلطة الكبرى

TT

بعد انتهاء الحرب الباردة بسقوط الأنظمة الشيوعية، سرت في نفوس الغربيين نشوة النصر، وخلصوا إلى هذه النتيجة، وهي أنهم انتصروا بتبنيهم للديمقراطية وحقوق الإنسان بما قلب مشاعر السكان ضد أنظمتهم الشمولية. توسع الغربيون في ذلك، فرأوا أنهم بتطبيق نفس الوصفة سيستطيعون قلب الأنظمة الديكتاتورية المعادية لهم في كل مكان، وخاصة الشرق الأوسط. أيدت إسرائيل هذا الاجتهاد بعد أن لاحظت أن مشكلاتها مع العرب كانت دائما مع الأنظمة العسكرية الديكتاتورية. تعاملت مع الأنظمة الليبرالية البرلمانية بسهولة أكبر. فراحت تدفع الأميركيين في هذا الاتجاه.

لخصت كل ذلك في مقالة نشرتها في حينها في مجلة «الديمقراطي». ولكنني مضيت إلى ما هو أبعد من ذلك فقلت إن أميركا ستستعمل قوتها في ضرب الأنظمة الديكتاتورية العربية وفرض الديمقراطية على بلادها. وأشرت بصورة خاصة إلى أنها ستجري أول تجربة لها في عالمنا العربي بغزو العراق وإسقاط صدام حسين. وستختار العراق لأنه بلد غني وحضاري وله شعب متنور ومثقف وكوادر مؤهلة كفؤة. وبنجاح التجربة ستحول أميركا العراق إلى جنة تحتذي بتجربتها بقية الدول كثمرة يانعة من ثمار الديمقراطية.

رحنا نحث الأميركيين والغرب على خوض هذه المعركة. خاضوها ولكنهم لم يحصلوا منها على تلك الثمرة المرجوة. بدلا من تحويل العراق إلى جنة، تحول إلى جحيم. فما الذي حدث؟ وما سر ذلك الفشل؟

إنني عرفت العراق، عراق الخمسينات، عراق العصر الذهبي للفكر العراقي المعاصر الحر، يوم أصبحت بغداد تعج باليساريين والليبراليين والوجوديين والماركسيين والعلمانيين بما جعل بقية المثقفين العرب يحجون إليها ليتزودوا من ثمارها، يوم لمعت سماؤها بتلك الأسماء الخالدة، الجواهري والسياب ونازك الملائكة وجواد سليم والبياتي والوردي وشاكر حسن ويوسف العاني وسواهم. وبعد هجرتي لبريطانيا، انحصر اختلاطي بنفس المجموعة من المثقفين والفنانين الأحرار. لم يخطر في بالي، ولا في بال المخابرات الغربية، أن تحولا خطيرا قد جرى منذ الستينات قلب تركيبة المجتمع العراقي. إن البعثيين قاموا بإبادة ذلك الجيل الذهبي، جيل الخمسينات. قتلوا وشردوا، ولم يبقوا منه أثرا في الساحة. وجدت الأحزاب الإسلامية، وعلى رأسها حزب الدعوة الساحة خالية فأقاموا فيها خيامهم واستغلوا حالة اليأس التي غمرت قلوب الناس فغرسوا فيها أفكارهم الظلامية للرجوع بالبلاد إلى القرون الوسطى. لم يعد العراق بلدا مؤهلا لديمقراطية مشرفة. وأكثر من ذلك، أغاظ نفوس الساسة الأميركيين والإسرائيليين بوقوعه في حضن عدوهم إيران.

تعالت الأصوات تلوم جورج بوش على سوء فعلته وفشل تجربته. وظهرت الاجتهادات بأن الديمقراطية نظام متطور معقد لا يصلح لشعوب متخلفة، والإسلام في حد ذاته لا ينسجم مع الديمقراطية أو احترام حقوق الإنسان في مفهومها الغربي. والشريعة قانون منزل من الله، بينما الديمقراطية شريعة من وضع الإنسان تتغير من يوم إلى يوم.

بدأ الأميركيون ينفضون أيديهم من التجربة، لولا أن طلع في سماء السياسة الأميركية نجم جديد يجدر بنا رصده في مقالتي القادمة.