المعرفة مؤلمة عند العرب

TT

من السهل جدا مجاراة الشارع وترديد الهتافات التي يرددها الجميع، ومن السهل أيضا إزجاء المديح المستمر للسلطات والحكومات دون أدنى تبصر أو توقف، ومن السهل السير خلف شعارات الجماعة أو الحزب أو التيار، أيا كان.

من السهل كل هذا، فهو لا يكلف سوى تحريك عضلة اللسان العمياء، أو «البصم» على ما يقوله بقية الجمع، والاشتراك في هذه الأهزوجة الجماهيرية أو تلك.

الصعب حقا هو الخروج برؤية فردية، تكون نتيجة تأمل خاص، وبحث حر، وخلاصات ذاتية، وحين نقول فردية وخاصة وذاتية، فلا يعني هذا ألبتة أي معنى قبيح من معاني الأنانية والأثرة الطماعة، بل يعني تحقيق معنى الحرية الحقيقية وهي حرية العقل والرأي والقرار.

هذا ما يسيطر على تفكير المرء العربي في خضم هذه الأمواج التي تضرب مدن العالم العربي وقراه وجباله وسهوله، وأنهاره وصحاريه.

حسنا، في مصر، أم «الثورات» العربية الحالية، حسبما يحب الكثيرون مشاهدة ما يجري في مصر باعتباره ثورة كبرى، يحدث فيها ما يحدث في أي ثورة بالتاريخ، وينطبق عليها كل مظاهر وسلوكيات الثورات، لكن نحن نرى الآن انكسارات حادة وأزمات خطيرة تطل برأسها على وادي النيل.

هناك أزمة طائفية كبرى لا تهدأ حتى تثور، وهناك انكفاء واضح لجهاز الشرطة والأمن بدعوة إعادة إعماره وتجديد صورته بعد أن كان هدفا أساسيا لدعايات المنتفضين أيام الثورة، وهناك بالتالي حالة انفلات أمني و«بلطجة» يشكو منها الجميع، وفي مقدمهم «أنصار الثورة» نفسها، لا يهم بعد ذلك القول إن ذلك كله من تدبير «الثورة المضادة» أو «فلول النظام» أو «جهات خارجية»؛ فكل هذه مجرد تهم وتوقعات ليست نهائية ولا قاطعة، هي مجرد تهم تلقى على من يرى هذا الطرف أو ذاك بأنه الأجدر بحمل صورة الشر.

لكن الواقع، في نهاية النهار هو من يفرض نفسه على الجميع، وها هو واحد من الشخصيات المصرية العامة، التي كانت من أبرز المناصرين لـ«ثورة ميدان التحرير»، يتحدث بشكل صريح عن لغة الواقع والخوف حاليا على مصر.

المهندس نجيب ساويرس أكد، حسبما نقل موقع «دنيا الوطن»، أن مصر في سبيلها إلى إفلاس قريب، مطالبا الشعب المصري بالعمل المتواصل ووقف كافة الاعتصامات والمسيرات حتى الانتخابات القادمة، «لتستعيد مصر أمنها واستقرارها».

وقال ساويرس، في تدوينة يوم الجمعة على حسابه الشخصي على «تويتر»: «ليس لدي أي شك أن مصر تتجه بخطوات متسارعة نحو إفلاس قريب»، وأضاف أن «المعرفة والخبرة قد تكون في بعض الأحيان لعنة»، في إشارة إلى خبرته الاقتصادية العريضة.

وزاد ساويرس، في تدوينة أخرى: «استيقظوا يا مصريون.. اعملوا بلا انقطاع.. اتفقوا على وقف الاعتصامات والمسيرات حتى الانتخابات القادمة لاسترداد الاستقرار والأمن».

وطالب رجل الأعمال نخبة المجتمع المصري ومثقفيه بتحمل مسؤوليتهم تجاه تماسك الأمة المصرية من مسلمين ومسيحيين، لضرورة هذا الأمر في الفترة الحالية.

المفتاح في كلام ساويرس هنا هو قوله: «المعرفة والخبرة قد تكون في بعض الأحيان لعنة». وهذا صحيح، وكما قال شاعر «النفسية العربية» أبو الطيب المتنبي من قبل:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

بعيدا عن مصر، في اليمن، استصحب، عزيزي القارئ، هذا الخوف العقلي، وتذكر كيف أن المرض ترك في اليمن السعيد حتى وصل إلى ذروته وكاد الورم أن يفتك به، وها هو رئيس اليمن يحاول جهده أن يتشبث بسلطة لم يعد لها من وجود فعلي بيديه، ولو كان أهل الخليج الذين سعوا - مشكورين – الآن لإخراج اليمن من أزمته الحالية، قد قاموا بذلك قبل خمس سنوات على الأقل لكان الأمر مختلفا، لو أن أهل المعرفة والرأي من اليمن أو الخليج قد أخذ برأيهم من قبل حول أزمة اليمن لكان الثمن المدفوع للإصلاح أقل والمخاطرة أهون بكثير. لكن كان الناس هنا أو هناك يرفلون بطمأنينة وهمية غافلين، أو متغافلين، عن الطوفان الذي يقبع خلف سد مأرب، وسيل العرم الذي سيعيد الأسطورة اليمنية العربية القديمة إلى الوجود من جديد في شكلها المأساوي المعروف.

كل ذلك لم يحصل ولم ينقذ اليمن من قبل، إما بسبب عدم تخلق إرادة خليجية مشتركة كما الآن، أو لأن الرئيس اليمني كان باستمرار يراوغ، كما يفعل حاليا، أو بسبب حساسيات معروفة لدى النخب اليمنية السياسية والثقافية تجاه جيرانهم الأغنياء من أهل الخليج، لكن كل هذا لم يكن يوازي ثمن الخسائر الكبرى التي تدفع جراء إهمال الجرح اليمني كل هذه السنين حتى التهب وكاد يأتي على الجسد كله، وحتى لو فرح أهل اليمن برحيل علي عبد الله صالح الوشيك، والصعب أيضا، فإنه فرح مؤقت بانتظار الواقع الأصعب في اليمن بعد صالح.

وجماع هذا الكلام كله؛ لو أن أهل الرأي والمعرفة كان لهم نصيب في صوغ الأمور صياغة مفيدة لما كان ما كان مما نراه في اليمن، أو على الأقل لكانت قدرة اليمن على الصمود أمام أعاصير العرب السياسية الآن أكبر وأصلب مما هي عليه الآن.. ولكن للأسف، كان ما كان، ولا ندري عما تحمله حقائب الزمان لأهل اليمن السعيد مستقبلا.

قل مثل ذلك عن سوريا التي أصر رئيسها الهمام على تمريغ كل الناس في لبنان والإصرار على التمديد لتابعه الرئيس لحود في لبنان، رغم أنف الجميع، وكان ذلك بوابة لسلسلة تداعيات خطيرة (اغتيال الحريري، وثورة 14 آذار، وغزوة حزب الله لبيروت، وانقسام عميق في لبنان، وقرار دولي ملزم بإخراج الجيش السوري من لبنان.. إلخ)، وها هو الرئيس الشاب الحكيم بشار الأسد يجني ثمرات غروره وجهله وعناده في عدم الإصغاء لمن لديهم الرأي والمعرفة الحقة.

هذه مشكلة كل الرؤساء العرب أو جلهم، كما هي مشكلة أيضا الثقافة السياسية العربية عامة، معارضة وموالاة، وما كان من عناد مبارك «الشهير» في مصر، أو «العند» حسب اللهجة المصرية، ها نحن نراه لدى من يمثلون الثورة أو التي كانت ثورة في مصر، فهناك «عناد» ثوري في رصف الأرقام الفلكية حول ثروة مبارك المليارية؛ حتى إن حسنين هيكل نفسه قال إن هناك مبالغات صحافية في الحديث عن حقيقة ثروة مبارك، وكذلك قال وزير العدل المصري، ولكن الصحافة التي فجأة أصبحت ثورية، أو التي كانت معارضة في السابق، لم تتوقف عن دغدغة مشاعر الجمهور، في حالة «عناد» لا تختلف عن عناد العهد السابق.. وفي حالة طرش وصمم عن الإصغاء للنصح والرأي الحكيم.

هي هي نفس الحالة، وذات السلوك، ومن يعلم يعلم، ومن لا يعلم يقول «بخيل» حسب القصة المعروفة والذكية.

[email protected]