مولد ستنا المحروسة

TT

منذ الطفولة يشدني دائما مشهد الاحتفال بمولد الحسين في القاهرة أو مولد السيدة زينب أو حتى مولد سيدي عبد الرحيم القنائي إلى جوارنا، وكنت دائما أتصور وقبل دراستي للعلوم السياسية أن في المولد تلخيصا للحالة المصرية. الناس يذهبون إلى المولد من أجل قضاء حاجات ملحة عجزوا عن قضائها بأنفسهم بعد أن ضاقت بهم السبل وقلت حيلتهم وتقطعت بهم السبل، فيستعينون بالأولياء للتوسط لهم عند المولى عز وجل كي يفك كربهم. ولبعض المجتمعات والمفكرين والمذاهب تحفظ على هذا السلوك، ولكن ما يهمني هنا هو الظاهرة ومغزاها فيما يحدث في مصر الآن وتداعياته.

في لحظة الكرب هذه يقصد الناس ربهم بقلب طهور، ولكن ليس كل من ذهب إلى المولد قضيت حاجته، ففي المولد دائما مشاهد جانبية تشد الناس بعيدا عن القصد وأحيانا تنسيهم إياه، وهذا ما أشهده اليوم. أراقب ما يحدث في مصر الآن بحزن شديد، ذلك لأن هناك إصرارا على أن يبقى المشهد سجين العروض البهلوانية الجانبية لمقصد فك الكرب عن وطن. عرض لبنات الحلو، كما كان يقال لنا في مولد الحسين، يقمن بالسحر والشعوذة وتوقظ أجسادهن اليافعة التي تتكشف وتتعرى بحركاتها البهلوانية الرغبات الكامنة في مجتمع محافظ، فمع السحر ورائحة البخور من المقام وكشف المفاتن تنبعث روائح الشهوة. وهذا تقريبا المقابل الموضوعي لبرامج «التوك شو» الإعلامية في مصر، حيث ينبهر الناس بالبنات على الشاشات وبما يبدو جرأة وديمقراطية في الحوارات والمعارك الكلامية وينسون القصد الأساسي الذي ثاروا لأجله وهو الوطن المريض. هناك أيضا ذلك الرجل الطاعن في السن الذي يمشي ومعه قرده بسلسلة في يده ويقدم عرضا هزيلا في بلد لم تكن قط القرود ضمن حيواناته، فينبهر بألعاب القرد صغار العقول، ويدور حوار حول القرود، هناك من يقولون إن القرد أصلا كان إنسانا أيام ثورة يوليو ثم «انسخط وأصبح قردا». هذه مشاهد من مولد الحسين أعرف أن منكم من يستطيع أن يميز مقابلها في المشهد الأساسي، بل يستطيع أن يضع إصبعه عليها وهو مغمض العينين.

على الجانب الآخر من البهلوانات ومشاهد إثارة الرغبة في المولد، هناك مشاهد الشعوذة. فهناك يقف رجل اشتعل الشيب في لحيته ومكحل العينين يحمل مبخرته ويقرأ الطالع، أو يضع في يدك ترابا فتفتح يدك فإذا هي بيضاء من غير سوء. ومتى ما آمنت وسلمته ما جئت به إلى القاهرة من شحيح المال، وباعك به بضاعته من بخور وأوراق تحصين الروح والجسد، حتى تكتشف أنك بقيت عنده وتمسكت به ونسيت أن تصلي في الحسين أصلا، أي نسيت الهدف نفسه! وهذا ما يحدث الآن في مصر؛ بداية من الحوار الوطني الذي هو مجرد عملية لتحويل الثورة من فعل في الشارع إلى ملاكمة ومعارك جانبية، أي تفريغ الثورة من محتواها ومنحنا بوا، و«البو» هو جلد رضيع البقرة المحشو بالقش يقرب من البقرة الأم لكي تدر حليبها. وقد كتبت في هذا مقالا كاملا بعنوان «ثقافة البو» في هذه الصحيفة. الهدف من البو هو أن تشم البقرة رائحة رضيعها الذي مات أو باعه صاحبها فتحن ضروعها، وهي استعارة لمصر التي تدر لبنها لكل «بو» يقترب منها، وما أكثر جلود البقر، وهناك اليوم في مصر بدل البو مائة أو أكثر مما تعدون، الكل يريد أن يحلب البلد.

نسي الذاهبون إلى مولد ستنا المحروسة، أن الهدف هو حماية البلد من اللصوص والنصابين، ولكن كثيرا من السحرة والحواة والنصابين هم اليوم نقباء المقام وسدنة المشهد الحسيني.. وما من صعيدي مثلي ذهب إلى مولد الحسين إلا وسرقت أمواله قبل أن يترك المقام. أنا لا أقول بأننا مجتمع من الحرامية، ولكننا مجتمع ساذج دفعته الحاجة وحالة الكرب التي تستحوذ عليه إلى زيارة الضريح، وأخذ النصابون مشاهد جانبية من عالم السحرة والحواة، مجتمع بهرته أضواء المولد وأضواء القاهرة ونسي ما جاء من أجله، وسرقت أمواله فوق كل هذا.

إننا أمام حالة بلد يسرق في وضح النهار. ولكن أملنا في الجيش، تلك المؤسسة الوطنية الحامية للمشهد، أملنا في هذه المؤسسة أن تلم الحواة وأن تلقي بعصاها كي تأكل ثعابين السحرة.. أما ما نراه الآن فالحواة يغمزون للجيش ويطالبون أن يمنحوهم فترة لأكل العيش.

سبب زيارتنا يا سادة للضريح هو أن لدينا وطنا مريضا صعدت روحه إلى الحلقوم، جئنا للدعاء له بعد أن ضاقت بنا السبل، فمن فضلكم يا سدنة الشاشات لا تلهوا جماعتنا عن القصد، لا تأخذوهم إلى بنات الحلو، فالبلد يشرب اليوم من كأس مرة.