كلمة مطلوبة

TT

الثورة المصرية التي ألهمت في أيامها الأولى العالم بأسره تحولت إلى مجموعة من الألغاز والأحاجي والطلاسم يحاول الكثيرون من المحللين والمهتمين بالشأن المصري فهمها وفك شفرتها الصعبة، ولكن هناك مسألة مهمة لا تنال نصيبها من المتابعة والاهتمام مثل الخلافات السياسية والتنازع الطائفي والاستقرار الأمني، وهي تحديدا المسألة الاقتصادية. اليوم لغة الأرقام المفزعة لا يمكن إنكارها على الساحة الاقتصادية المصرية، وهي تتحدث بشكل مقلق عن وضع أقل ما يمكن وصفه به هو الخطير جدا. البنك المركزي يحذر من تناقص حاد في الاحتياطي الخاص بالنقد الأجنبي الصعب مما اضطره إلى الاقتراض بشكل طارئ وعاجل من البنك الدولي.. وزارة السياحة تعلن عن هبوط حاد في معدلات الوفود السياحية، ومداخيلها وصلت إلى أقل من 47 في المائة.. تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى مصر، وكما أعلن رسميا، بلغ الصفر منذ قيام الثورة.. نسبة مداخيل قناة السويس في هبوط حاد.. ونسبة البطالة إلى ارتفاع مقلق هي الأخرى.

ومنذ انطلاق الثورة قرر النظام الجديد في مصر محاربة الفساد المستشري الذي ساهم في تحقيق أضرار كبيرة في الاقتصاد، ولكن المحاسبة حملت رائحة الانتقام والتشفي بدلا من العدل والمحاسبة، وكذلك كان هناك الطابع الانتقائي المسيس لإبراز «بعض» القضايا لدول بعينها دون غيرها، مما أثر على نهج المتابعة والتدقيق والمحاسبة المتبع. فمحاولة إبراز أن شركات خليجية، وتحديدا سعودية وإماراتية، كانت متواطئة مع النظام القديم في الاستثمارات التي كانت في مصر، هي نوع انتقائي جدا، وإلا فكيف يتم تفسير السكوت عن الاستثمارات الليبية واللبنانية والأوروبية وغيرها، وهي جميعها كانت تتم مع نفس رموز النظام القديم الذين يتم محاكمتهم ومحاسبتهم اليوم؟!

السعودية والإمارات على سبيل المثال هنا، لا تستثمران مع نظام أو شخص بعينه، ولكن مع دولة وكيان وشعب له تاريخه ومكانته، وآن الأوان لأن تقال كلمة حق للصالح العام في مصر حتى يتم تسليط ضوء من العقل والمنطق والحكمة، حتى ولو كان ذلك ضد التيار العام المحرك في الشارع والإعلام والذي يصر على وضع «وجه» للعداء ضد الثورة في هيئة المستثمر الخليجي، وهذا باطل عظيم.

الخلافات الداخلية والتدخلات الأجنبية أيا كانت يجب ألا يدفع ثمنها أنظمة وحكومات وشعوب محبة لمصر أثبتت عبر السنين وفي كل العهود وتحت حكم مختلف الأشخاص أنها مع البلد بغض النظر عن الذي يحكمه، والتاريخ هو أهم الأدلة المؤيدة لهذا القول. والقضية هنا ليست «منة» أو «تفضلا»، ولكنها توضيح للحق والاعتراف بالحقيقة وعدم الانجراف وراء إشاعات وأقاويل لا أساس لها من الصحة يتم نشرها ودعمها لأجل أسباب «معينة ومحددة» ستكشف عنها الأيام، فكل وضع جديد له مستفيدون جدد مهما حسنت النيات، ولكن يبقى الدور هنا على الحكماء والأمناء الذين ينشدون الصالح العام ويدركون عواقب الانجراف وراء فكر التجريم والتخوين بشكل أهوج ويعلمون ثمن وتكلفة كل ذلك مهما كانت نشوة الانجراف وراءه ممتعة وجذابة على المدى القصير.

بناء الجسور المبني على الثقة في حاجة إلى أن يكون نهجا مستمرا لا تضره الأكاذيب والمغالطات، ولكن يؤسس على الوقائع والثوابت والأرقام. وفكرة تجريم المستثمر الخليجي اليوم في مصر ما بعد الثورة سترسل رسالة خطيرة للمواطن المصري والخليجي، وحتما بعد ذلك للمستثمر العالمي.. فالواقع يقول إن العلاقات المصرية - الخليجية حيوية ومهمة ويجب أن تبقى كذلك مهما تغيرت الأنظمة والشخصيات، وأن يكون هناك فارق عملي بين المحاسبة والانتقام، وأن يكون ما ينشر من أخطاء في الإعلام اليوم فيما يخص العلاقة بين الخليج العربي ودوله وحكامه ومستثمريه وبين مصر، قابلا للعقوبة والحظر ويعامل كمسألة تخص الأمن القومي، للحد من الكذب والخطأ في هذه المسألة الحيوية. هناك عقلاء ومحبون لمصر آن الأوان لأن يسمع منهم، حتى ولو بدت بعض كلماتهم وكأنها ضد التيار الجارف.

[email protected]