(خوش) استقبال

TT

في تحقيق لطيف كتبه (سعود المطيري) بجريدة «الرياض» عن الحياة الاجتماعية في المنطقة الوسطى من السعودية قديما، وكيف أن المنازل في ذلك الوقت كانت كلها من الطين، ولم يكن هناك هندسة أو مهندسون، وعندما يريد أحد منهم أن يبني منزلا فإنه يقتدي بالقاعدة القائلة: (خط برجلك وعمر بيتك)، وما إن ينتهِ من هذه المهمة الخطيرة، حتى يؤمن الطين اللازم والخشب وسعف النخيل، ثم يقيم وليمة متواضعة لأهل الحي الذين يهبون (للفزعة) - أي للمساعدة -، ويحددون لها يوما معينا يبدأ بعد صلاة الفجر، وجرت العادة أن يتعاونوا جميعا بالبناء رجالا ونساء تصاحبهم بعض الأغاني الاستعراضية وألوان من الحداء الحماسي.

والبيوت في ذلك الزمن متراصة ومتلاصقة لدرجة أن (مزراب) المطر من الممكن أن يصب في حوش الجيران في بعض البيوت، إلا أن تلاصق المباني كان يلبي الكثير من الاحتياجات الأمنية، وهو يحدث تقاربا وتوحدا روحيا بين الجيران الذين يسمعون أصوات بعضهم بعضا، وتتواصل النساء بعضهن مع بعض من خلال الأسطح.

وكانت الشوارع عبارة عن (دواعيس) مظلمة ومتعرجة، غير أنهم لا يغفلون ترك مساحة كبيرة وسط الحي تستخدم كمناخة للإبل وكملاعب للأطفال والدواجن، وكملتقى للأهالي بعد غياب الشمس للاحتفاء بمواشيهم العائدة من المراعي.

ويقال إن هؤلاء الرعاة العائدين تنطبق عليهم قصة المرأة التي كان زوجها يعود مع حماره مغرب كل يوم فتسمع أولا (نهيق الحمار) فرحا بـ(العلف) كلما وصل إلى باب المنزل، وكان الزوج في قمة عافيته ونشاطه، فتقول المرأة لأبنائها كلما سمعت نهيق الحمار (افتحوا الباب جاء أبوكم)، ولكنها بعدما كبر الزوج وخارت قواه كانت كلما سمعت نهيق الحمار العائد مع الزوج المنهك قالت لهم (افتحوا الباب جاء الحمار)!

ومما يروى أن أحد سكان قرية من هذه القرى، هاجر منها صغيرا وغاب عنها عشرات الأعوام وأصبح غنيا، وقرر الذهاب لزيارتها في أوائل السبعينات الهجرية راكبا سيارته الأميركية الفارهة، فأقام له شيخ القرية وليمة في منزله، وعندما دخل السائق الأرعن بالسيارة في الشارع الضيق معتقدا أنه سوف ينفذ للوصول لمنزل الشيخ، وإذا بالسيارة تنشب وتطبق عليها الجدران ولا تستطيع أن تتقدم أو تتأخر، وبالطبع فالأبواب من المستحيل أن تفتح، وأصبح الرجل الثري مع سائقه واقعين فيما يشبه المصيدة، حاول الأهالي سحبها بشتى الوسائل ولكنهم عجزوا، فما كان منهم إلا أن يهدموا الجدار الملاصق لباب السيارة لفتحه وإخراجهما، غير أن الجدار عندما تهدم اختل من جرائه توازن البيت، وسقط السقف بكامله على السيارة وحطمها على من فيها.

وتكاتف الجميع لإزاحة أنقاض البيت من على السيارة، ولم يستطيعوا الوصول إلى الثري وسائقه وإنقاذهما إلا في المساء، ومن حسن حظهما أنهما خرجا سالمين إلا من بعض الخدوش البسيطة مع فقء العين اليسرى للسائق.

وكان هذا هو أول استقبال من تلك القرية الوادعة (لحضارة) القرن العشرين.

[email protected]