مبادرة سلام فاشلة أخرى!

TT

كنت في «برنستون - نيوجيرسي» في الولايات المتحدة الأميركية عندما استمعت إلى خطاب باراك أوباما عن المنطقة العربية وما يجري فيها. كان وجودي قبل ذلك الخطاب بأسبوع شمل زيارة إلى واشنطن حيث أجريت لقاءات قليلة، ولكن المهم كان متابعة الطريقة التي يتم فيها تحضير الرأي العام لخطاب هام يلقيه رئيس الدولة. والحقيقة أن الخطاب كان عليه منافسة أحداث مثيرة أخرى شغلت الجميع وأخذت ساعات طويلة من المحطات التلفزيونية التي لا يعرف أحد عددها، وصفحات الصحف التي وجدت في أمور جنسية ما يجذب قراء استعصوا على الجذب إلى الصحافة المطبوعة.

كان هناك حدثان على الأقل ربما لم يشغلا أميركا فقط بل العالم كله؛ حدث اكتشاف طفل غير شرعي لأرنولد شوارزنيغر الممثل الأميركي وحاكم ولاية كاليفورنيا المعروف؛ وحدث الاتهام الموجه إلى دومنيك ستراوس - كان رئيس صندوق النقد الدولي بمحاولة اغتصاب عاملة في أحد فنادق نيويورك. كان كلا الحدثان مفعما بأمور حريفة كثيرة من أول العلاقة الجنسية بين الممثل وعاملة في منزله والتي حملت منه في ذات الوقت الذي كانت فيه ماريا شرايفر - السيدة من عائلة كنيدي الشهيرة - قد حملت في طفل آخر؛ وحتى التاريخ الجنسي لرئيس واحدة من أهم المنظمات الدولية والملقب بالمنقذ لليونان وآيرلندا من أزماتهما الاقتصادية.

كان على خطاب أوباما أن يتنافس مع الحدثين وأظنه أحرز تقدما كلما اقترب وقت الخطاب الذي كان واضحا أن أهميته ترجع إلى تحديد موقف الولايات المتحدة من أمرين: الثورات العربية الراهنة؛ والسلام العربي - الإسرائيلي مرة أخرى. في البداية حاول أوباما أن يحل معضلة العلاقة بين «مصالح» الولايات المتحدة و«مبادئها»، وبعد أن قام بتأييد الثورات بدرجات مختلفة من التعاطف فإنه جاء إلى الصراع العربي - الإسرائيلي مع ذيل الخطاب حيث تمخض الانتظار الطويل للخطاب عن فأر صغير لا يضيف كثيرا على ما نعرفه بالفعل. كان واضحا أن أوباما يفصل نغماته في الخطاب حول حاجاته الداخلية من ناحية وقد بدأ موسم الحملة الانتخابية في الظهور في الأفق. فهو يوجه تحذيراته للفلسطينيين من اللجوء للأمم المتحدة بصرامة وتحديد الثمن وهو أن الحصول على قرار إضافي بدولة فلسطينية لن يؤدي إلى شيء في الواقع العملي. ولكنه على الجانب الآخر يعطي مقدمة طويلة في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية التاريخية والقائمة على أسس من المصالح والأخلاق قبل أن يأتي إلى النقطة التي يريد للإسرائيليين عرفانها وهي أن الأمر الواقع غير قابل للاستمرار.

والحقيقة أنه ليس مفهوما لماذا يبدأ أوباما محاولته الثالثة لحل الصراع العربي - الإسرائيلي بعد أن أصبح لديه الخبرة بالفعل لما يجب عليه أن يفعله. وقد كانت المحاولة الأولى في أعقاب توليه مباشرة للإدارة الأميركية حينما قام بتعيين جورج ميتشل في الأيام الأولى؛ وحينما قدم نصا قويا في خطاب القاهرة الشهير حول ضرورة حل الصراع. وهكذا بدأ المشهد المعهود للزيارات المكوكية للمنطقة حتى بات واضحا أن أوباما لن يكون قادرا على وقف حركة الاستيطان الصهيونية التي تفسد موضوع التفاوض من الأصل. وبعد الفشل الأول استيقظ أوباما مرة أخرى على محاولة أخرى في الأول من سبتمبر (أيلول) 2010 في حضور الرئيس المصري (السابق) حسني مبارك، والملك عبد الله الثاني، وأبو مازن ونتنياهو بالطبع. وبدأت المفاوضات في واشنطن، وتمت متابعتها في شرم الشيخ، وعندما أتى موعد نهاية وقف الاستيطان لم يجد نتنياهو مشكلة في استئناف البناء مرة أخرى، وهكذا فشلت المبادرة تلك المرة أيضا بعد أقل من شهر من إطلاقها، بعد أن كانت فكرة المفاوضات غير المباشرة من خلال المبعوث الأميركي قد فشلت هي الأخرى.

الآن استقال المبعوث الأميركي معلنا فشلا كاملا للمبادرتين الأولى والثانية، وإذا بأوباما يقف معلنا عن مبادرة ثالثة ليس لها مبعوث هذه المرة، أو حتى الآن، ولكنها لا تختلف في أمر عن كل المبادرات السابقة. صحيح أنه أعاد التأكيد على حل الدولتين، وهذه المرة وفقا لحدود الخامس من يونيو (حزيران) 1967؛ إلا أنه من جانب آخر استبعد القدس وقضية اللاجئين من المفاوضات على الأقل في مرحلتها الأولى. المبادرة بهذا الشكل تكفي لكي تدفع الإسرائيليين إلى الرفض، وهو ما حدث، ولا يوجد فيها ما يغري الفلسطينيين بالقبول خاصة أنه لم يذكر فيها شيء قط عن الاستيطان الذي هو أصل البلاء في فشل كل المبادرات السابقة. النتيجة، من الناحية العربية على الأقل، هي أن أوباما يريد إيقاف اللجوء العربي إلى الأمم المتحدة، وهو يريد الاقتراب من الديمقراطيات العربية الجديدة، أو يدعمها من خلال عملية سلام مزعومة في منطقة تشبعت حتى النخاع بمبادرات السلام الفاشلة.

وربما كانت هذه النقطة تحديدا هي التي يكمن فيها الفشل الأكبر لأوباما؛ فالثورات العربية أكثر تعقيدا بكثير مما تم نقله عنها من خلال المحطات التلفزيونية، والأحلام والأماني الليبرالية التي كثيرا ما تغرق في الأحلام البعيدة عن الواقع. فالثورات العربية لم تعد على براءتها وديمقراطيتها الأولى بل اختلط فيها طموح الحركات الإسلامية، وجموح الجماعات القومية، وهذه وتلك ليس لها في الديمقراطية الكثير، ولكن لها في الصراع العربي - الإسرائيلي يد طولى تتحرق لاستئناف الصراع على جميع الجبهات.

نجوم المرحلة الآن في مصر ليسوا وائل غنيم ومصطفى النجار وزياد العليمي وشادي الغزالي حرب من أنصار الدولة المدنية الديمقراطية المتقدمة؛ وإنما زعماء الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية والأستاذ محمد حسنين هيكل ونبيل العربي ورموز وأنصار جماعات قومية كلها لم تتوافق قط مع اتفاقيات ومحاولات السلام مع إسرائيل. هذا الواقع في جانبه الإسرائيلي أكثر وضوحا من أي وقت مضى ممثلا في بنيامين نتنياهو الذي لم يترك حجرا لم يحركه من أجل استمرار الصراع من أول المستوطنات وتغيير معالم القدس، وحتى رفض حدود الخامس من يونيو، والتأكيد على استحالة الانسحاب من غور الأردن.

المبادرة ضمن هذا الإطار حالمة مثلها مثل الكثير من خطب أوباما، يمكنها أن تأخذ جائزة في البلاغة، ولكنها لا تفيد كثيرا في الواقع السياسي. وربما يكون فيها إشارة بالنوايا الحسنة نحو الديمقراطيات التي يراها وليدة من رحم الشهور الماضية؛ لكن دخول الصراع العربي - الإسرائيلي إلى قلب المسرح لن يكون أقل من صب الزيت على النار. وفي المنطقة نار كثيرة، ولهب أكثر ينتشر في كل الاتجاهات ويبحث عن واقعة كبرى تربط بين الأوضاع الملتهبة الداخلية للدول، والأوضاع الإقليمية الحساسة والمكفهرة، وساعتها سوف يكون الحدث كبيرا مسجلا أن الدنيا قد تغيرت في المنطقة العربية.