الإسلام السياسي وخطابات «الظل»!

TT

من الصعب جدا؛ رغم كل هذا التفاؤل الذي طغى لدى عدد كبير من المثقفين على اختلاف شرائحهم ومشاربهم، عزل التفاؤل بربيع الثورات العربية التي ترافقت مع صعود الحالة الإسلامية السياسية بتنوعاتها المختلفة، ونحن نتحدث هنا عن نوع محدد من الإسلام السياسي الذي تمثله تيارات عديدة لا يمكن وضعها في سلة واحدة لكنها تتفق في المجمل أن الشأن السياسي العام، تداولا وتفكيرا، لا يمكن عزله عن المفاهيم الإسلامية الحديثة للسياسة، التي تمت إعادة إنتاجها وعصرنتها طبقا لحالة الصعود التي عاشتها تلك الحركات ما بعد معركة النكسة، صحيح جدا أن نسغ هذه الخطابات يعود إلى مفاهيم كلاسيكية في التراث السياسي الإسلامي لا تتواءم مع منطق الدولة الحديث القائم أساسا على تعزيز مفهوم المواطنة الذي تأسس على حدود الدولة القطرية، بينما تحاول تلك الخطابات جاهدة ضخ الحياة في مفاهيم أممية وشمولية ذات طابع إطلاقي؛ حتى بات من العسير جدا أن تتحول إلى برامج سياسية يمكن أن تقدم إلى صناديق الانتخابات التي تفتح أبوابها الرحبة في مرحلة ما بعد الثورات للخطاب السياسي الإسلامي الصاعد عبر بوابة الإخوان المسلمين تحديدا في مصر الآن وتونس وليبيا واليمن، وربما سوريا لاحقا، إذا مضت الثورات بمنطقها التصاعدي الاستبدالي لكل الأنظمة التي فشلت بامتياز في تحقيق مفهوم المواطنة في حين أن المعارضة، شئنا أم أبينا، لا يمكن أن تشكل زخما ورقما لافتا على الأرض بعيدا عن زخم الجماعة الأم أو كبرى الجماعات الإسلامية التي تحولت بفضل خبرتها الطويلة في المعارضة وتحولات خطابها السياسي إلى الرقم الأصعب في معادلة الأحزاب السياسية.

هناك الكثير مما قيل ويقال عن ترهل خطاب الجماعة الأم وفشلها حتى اللحظة في تكوين خطاب سياسي حديث يلائم تعقيد الحالة السياسية الآن بما فرضته من أسئلة لا يمكن معها البقاء على ثنائية «الدعوي» و«السياسي»، بمعنى أن تمارس خطابك الدعوي على الأرض لكسب المزيد من الأنصار وخطابك السياسي لحشد الأحزاب السياسية المضادة لرؤيتك للاستقواء بها، لكن ليس هذا هو المهم الآن ما دام أن البرامج السياسية إلى الآن في طور التشكل والتطوير من قبل الجماعة الأم.

المهم الآن هو فحص الحالة الدينية الموازية لخطاب الإسلام السياسي، التي يبدو أنها ستسحب البساط على مستوى القاعدة الجماهيرية التي حظي بها خطاب «الإخوان» في السابق أيام كانت تتسيد المعارضة، وهذا ما يفسر حرص الجماعة الآن بدعم من تيارات سياسية وثقافية وبتأييد غربي متمثل في مراكز الأبحاث والدراسات، كل له أجندته، على خلق عدو جديد بعد أن ضاق الخناق على استخدام فزاعة «ملف الإرهاب» بعد التحول الكبير الذي حصل له على الأرض كجزء من رد الفعل ما بعد صدمة الثورات والتغيير الشامل الذي أحدثته.

العدو الجديد المرشح الآن هو السلفية؛ الشبح الذي لا يمكن تحديده أو الإشارة إليه بأصابع الاتهام كما كان الأمر أكثر سهولة مع الإرهاب، الخطاب العنفي والمسلح ذي الملامح الواضحة التي لا تخطئها العين، فالسلفية كما يشار لها بتسميات كثيرة وأوصاف تزيدها ضبابية تعود إلى كل «خطابات الظل» الدينية التي ليس لها رؤية سياسية محددة يمكن أن تتحول إلى حزب أو برنامج انتخابي لكنها على المستوى الجماهيري تجاوزت كل جماعات الإسلام السياسي بما تملكه من قوة التأثير ومصادر التلقي والبعد عن النخبوية في الوصول إلى البسطاء، كما هو الحال مع جماعات الإسلام السياسي التي تحولت، شأن باقي الأحزاب، إلى تيارات نخبوية بورجوازية، لولا بقايا من الخطاب الدعوي الذي لا يمكن أن يصمد أمام قوة وجماهيرية الخطابات المحافظة ذات الصبغة الاجتماعية وغير المسيسة التي من الخطأ حصرها في «السلفية» فهي تتشكل بحسب البلدان التي تنتمي إليها؛ حيث يهيمن الخطاب المتصوف ذو المرجعية الأشعرية في المغرب، ويقاسم السلفية في مصر وتونس وليبيا، هذا إذا ما تحدثنا عن سلفيات متنوعة في البلدان الأخرى.

لا يمكن الحديث عن مناخ سياسي خالص يستبعد الخطاب الديني؛ فالحالة العربية والإسلامية معجونة بالدين ليس فقط على المستوى السياسي، بل حتى الاجتماعي والاقتصادي، أغلب التحولات والصراعات الجماهيرية تحركها شعارات دينية تفعل مفعول السحر في وجدان الجماهير؛ هذا إذا ما تجاوزنا أن الحالة العامة التي تسود عالم اليوم في نظر كثير من الفلاسفة هي حالة صعود العودة إلى الجذور والهويات الأولى التي هي في كثير من تجلياتها، حتى الغربية، ذات منزع ديني.

المعركة القادمة ليست بين النخب السياسية وتيارات الإسلام السياسي، بل بين الأخيرة وخطابات الظل على الشرعية الدينية التي هي بالتالي مقدمة إلى الشرعية الاجتماعية فالسياسية، تلك المعارك الآن تبدأ مقدماتها في الحديث عن معوقات الخطاب السلفي ووقوفه حجر عثرة أمام التحدث أو الانتقال السلس للإسلام السياسي لسدة الحكم، بينما هو في جوهره صراع بين التيارات الدينية والإسلامية المختلفة على الشرعية والتمثيل للإسلام الحق كما يتم التعبير عنه بيقينية مفرطة من الجميع.

هناك قائمة طويلة من المسائل الشرعية والقضايا الدينية التي لم تزل عالقة في خطابنا الديني المعاصر لكن خارج تلك الصراعات الداخلية هذه الأسئلة عادة ما تصدر عن طرف محايد يعبر عن سياق فكري مختلف غير معني بالشرعية أو كعكعة الجماهير بقدر أنه مشغول بصورة خطابنا الديني لدى الآخر، وعادة ما يمثل هذا الصوت الصحافة والخطاب النقدي الأدبي والفكري. تكمن المشكلة في أن الخطابات الدينية التقليدية أو تلك ذات البعد السياسي النفعي بغرض الوصول إلى كرسي الحكم، المسيطرة على ذهنية حركات الإسلام السياسي، خطابات لا تاريخية وبالتالي ليست واقعية فهي تستخدم أدوات بحث وتفكير تعطي في المحصلة نتائج كارثية على مستوى علاقة تلك الأفكار بالواقع، مهما تذرعت بشعارات من مثل تطبيق الشريعة أو الالتزام بالنص الديني.. إلخ، تلك الشعارات، التي هي مقولات حق أريد بها باطل، بحيث باتت تستخدم كفزاعة لتخويف المخالفين عبر التلويح لهم بتهمة «المروق من الدين»، في حين أن كثيرا مما يطرح في مثل هذه المسائل الحساسة لا يعدو أن يكون أخذا برأي فقهي، تقابله آراء أخرى مقبولة من حيث مرجعيتها الدينية.

نحن بحاجة إلى تجاوز رصد الظواهر المرضية للخطاب الديني، والانتقال إلى قراءة نقدية لجذور العطل في بنية الخطاب الذي أعاد إنتاج الإسلام، وفق رؤية صدامية آيديولوجية تستمد جذوتها من شعارات طوباوية تدعي قيادة الأمة وتزعم التحكم في مصائرها، مع أنها لا تملك أحقية تمثيل الخطابات الدينية الأخرى المنافسة لها، فضلا عن وهم امتلاك الحقيقة للحديث باسم المجتمعات والدول وفق رؤيتها الضيقة للعالم. الخطاب الديني المعاصر هو خطاب حديث من جهة تناوله للمسائل المعاصرة وإن كان يستمد نتائجه من خلال الاعتماد على النصوص الدينية عبر آليات القياس وإلحاق المعاصر بوقائع قديمة مع إلغاء الفوارق الزمانية الضخمة، والأهم من ذلك أن هذه الخطابات لا تمتلك حالة توافقية أو أي إجماع، فهي منذ لحظة الاصطدام بالواقع الجديد مع سقوط الخلافة العثمانية وهي تعيش أشكالا من التذرر والانشطار لمحاولة التكيف مع المستجدات التي يفرزها الواقع من دون مساءلة للمقولات الأساسية التي اكتسبت هذه الجماعات كينونتها عبرها.

نعم لتجديد الخطاب الديني، فهو أمر مهم وحاسم حتى في كثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن الأهم هو تجديد أدوات القراءة والشرائح المستهدفة ومصادر التلقي عبر فتح كل الملفات العالقة والحساسة حتى لا ندور في حلقة مفرغة.

[email protected]