وجوه الهدوء

TT

ثمة غرابة، أو غموض، في أمور الرجال. لماذا أحب الناس، في أميركا والعالم، جون كيندي، وكرهوا نائبه ثم خلفه، ليندون جونسون، مع أن هذا كان أكثر ليبرالية مما يبدو، وذاك أكثر قسوة مما يبدو. هل تؤخذ الناس بالملامح أكثر من الحقائق؟ لقد كره بعض الناس ماو تسي تونغ وأحبه البعض. وفي زمنه كان هناك من يكره الصين ومن يحبها. لكن العالم أجمعَ على محبة رئيس الوزراء شو آن لاي. في الشرق وفي الغرب. وثق به الأميركيون والسوفيات المتعاديان وكلاهما عدو بكين. وارتاحت إليه الأمم، محايدة ومنحازة. كان رجلا ثابتا في مواقفه، لكنه كان متواضعا ومؤدبا وغير متعجرف. عندما فاوض ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر بدأ بالقول «نحن دولة حديثة على المحيط الهادي، لا يزيد عمرنا على 22 عاما». فاعترض كيسنجر قائلا «لكنكم حضارة عمرها ألوف السنين». رد «صحيح. لكن هذا يفيد في الوحدة الداخلية ولا معنى له في المواقع الاستراتيجية».

أستعيد في قراءة كتاب كيسنجر الجديد «عن الصين» معاني تلك الحقبة التي عشناها كصحافيين. وثمة ترداد كثير في 600 صفحة. وهناك أيضا إعادة تدوير لأشياء كثيرة. وكالعادة يحول قضايا كثيرة نشرها الكاتب من قبل إلى فصول يوحي بأنه عرفها وحده من خلال منصبه. ولكن هذا ليس بجديد. وقد تقاعد الرجل منذ أربعين عاما، ولا يزال يصانع في ذكرياته كالخباز، الذي يمكن أن يحول قطعة العجين نفسها إلى كرة صغيرة أو إلى رغيف «مرقوق» دائري وسيع.

في لحظة صدق نادرة يقول كيسنجر «خلال ستين عاما من الحياة العامة لم ألتق شخصية آسرة مثل شو آن لاي. قصير، أنيق، ذو وجه معبر وعينين مضيئتين. يسيطر على مجلسه بقدرته على قراءة أفكار محاوره. وقد جعل من نفسه رجلا لا يمكن الاستغناء عنه، بسبب طاقته على قراءة أفكار ماو وتحويلها إلى برامج عملية، كما أحبه الصينيون لأنه طالما استطاع أن يضفي الاعتدال على تلك الأفكار».

«الفارق بين ماو وشو، أن الأول كان يسود أي تجمع، والثاني كان يغني أي لقاء. ماو كان يستخدم ذكاءه للسيطرة على أي محاور، شو كان يحاول الإقناع، أو الفوز بالمناورة. ماو رأى في نفسه فيلسوفا، شو رأى في نفسه إداريا أو مفاوضا. ماو كان يريد استعجال التاريخ، شو كان يرضى باستغلال تياراته. وكان يردد باستمرار أن على صاحب الدفة أن يبحر مع الأمواج».

كان شو، مع كثيرين غيره، من رفاق ماو، هدفا للثورة الثقافية المجنونة التي ضربت الصين عام 1966. فبالنسبة إلى «الحرس الأحمر» كان من عائلة بورجوازية تلقى دروسه في باريس. ولم ينفع له أنه ظل 40 عاما أقرب الناس إلى ماو. وقد نجا لأنه «أبحر مع الأمواج» لكن ليس لفترة طويلة، فقد أزيح الوجه الهادئ نهائيا عام 1973. وخسرت الصين أهم دبلوماسي في تاريخها اعتاد الناس على صورته، فيما اجتاحت الثورة رفيقه دنغ كياو بنغ، الذي عاد ليتزعم نهضة الصين المذهلة.