افتقارها للقيادة السياسية والميدانية هو مشكلة «الثورة السورية»

TT

ثبت بعد أكثر من سبعين يوما أن «الثورة السورية» قد انفجرت عفويا وتلقائيا، تأثرا بما جرى في تونس ومصر وليبيا واليمن، وأنه لم تكن هناك خطة مسبقة، لا داخلية ولا خارجية، وأن كل هذه الأحداث التي بدأت في درعا في الجنوب ثم عمت البلاد من دير الزور والقامشلي في الشرق، حتى اللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس في الغرب، كانت بلا قيادة مركزية واحدة، ولم يكن خلفها لا تنظيم بمفرده ولا تحالف من عدد من التنظيمات التي هي في معظمها وهمية وليس لها أي امتداد فعلي في القاعدة الشعبية العريضة.

كانت هناك بلا أدنى مشاركة من قبل حزب الاتحاد الاشتراكي (الناصري) الذي كان قد أسسه البعثي القديم جمال الأتاسي الذي كانت ابنته قد اعتقلت عشية انطلاق موجة الاحتجاجات وكانت هناك مشاركات متواضعة من قبل أحزاب وتنظيمات صغيرة أخرى، وحتى الإخوان المسلمون، الذين كانوا قد تعرضوا لحملات تدمير واقتلاع على مدى الـ40 سنة الماضية وتعرضوا لمذابح كثيرة أشدها عنفا مذبحة حماه في عام 1982، فإنهم التحقوا بهذه الحركة الشعبية متأخرين جدا، وذلك لاعتبارات كثيرة، ربما من بينها أنهم تلقوا نصائح من «إخوانهم» في مصر بأن عليهم التريث والانتظار حتى لا يتم الانفراد بهم على غرار ما حدث في بدايات عقد ثمانينات القرن الماضي.

لذلك، ولهذا كله، فإن حركة الاحتجاجات مع أنها بدأت بدرعا ثم ما لبثت أن عمت المناطق السورية كلها، فإنها بقيت عفوية وإنه لم يتوافر لها التوجيه القيادي المركزي ولم تتوافر لها التغطية الإعلامية الكافية، مما جعلها غير ضاغطة بما فيه الكفاية على الرأي العام العربي وعلى الرأي العام العالمي وجعل التحرك الأميركي والأوروبي يأتي متأخرا ومتواضعا إلى أبعد الحدود، قياسا بما كان قد جرى بالنسبة لمصر؛ حيث بقي الرئيس باراك أوباما يحرص على الظهور يوميا ليدلي بتصريحات ساخنة جدا طالب فيها الرئيس السابق حسني مبارك بـ«التنحي فوريا ومن دون تباطؤ».

لو أنه كانت لثورة الاحتجاجات في سوريا قيادة مركزية واحدة لكان التنسيق الميداني أكثر جدوى وأكثر انضباطا، ولما كان هناك هذا الارتباك كله الذي ظهر أكثر من مرة، ولانكشفت كذبة «العصابات المسلحة» مبكرا، ولما انطلت هذه الكذبة على بعض السوريين وبعض العرب، ولجرت الأمور بصورة تصاعدية، ولكانت قد ظهرت في الجيش السوري انشقاقات فعلية ومؤثرة، ولما بقيت المدينتان الرئيسيتان، العاصمة دمشق وحلب، خارج دائرة هذا الذي جرى كله، ولكانت هناك خطة إعلامية تجري متابعتها من قبل أجهزة متخصصة مع وسائل الإعلام العربية والعالمية كلها.

وحقيقة أن هناك عوامل من بينها هذا العامل، الذي هو القيادة المركزية الموحدة، قد جعلت النظام يرتكب هذه الجرائم التي ارتكبها كلها بعيدا عن الأضواء وبعيدا عن الشهود، واللافت للنظر أنه حتى منع مؤسسات حقوق الإنسان الدولية التابعة للأمم المتحدة من الوصول إلى المدن والمناطق المنكوبة، وفي مقدمتها درعا، ولم يحظ بأي ردود فعل عالمية جدية، وأن حتى اكتشاف المقابر الجماعية لم يواجه بالاستنكار والشجب المطلوبين، على غرار ما كان يحدث ردا على أحداث مماثلة كانت قد وقعت في دول عربية أخرى وفي بعض الدول الأفريقية.

لم تستطع المعارضة السورية الخارجية أن تسير أي مظاهرة حقيقية ضد أي سفارة من سفارات سوريا في العواصم الأوروبية والعواصم الغربية بصورة عامة، ولم يحدث أي انشقاق لأي دبلوماسي سوري من العاملين في الخارج على غرار ما حدث في ليبيا، ويقينا لو أنه توافر لهذه الاحتجاجات قيادة مركزية لديها علاقات متينة مع القوى والتنظيمات العربية والعالمية لاستطاعت هذه الثورة الشعبية أن تفرض نفسها على الشارع العربي وعلى الرأي العام العالمي، ولكانت هناك حملات مؤازرة ودعم منظمة ومتواصلة، ولما استطاع النظام أن يستفرد بالثائرين هذا الاستفراد كله ويبطش بهم بهذا العنف كله وهذه القسوة كلها وبعيدا عن الأضواء.

لكن، ومع ذلك، فمن المفترض أن هذه الثورة قد استطاعت خلال أكثر من سبعين يوما، منذ بدء انطلاقها من درعا في جنوب البلاد، أن تفرز قيادتها السياسية والميدانية، وأن تفوت على النظام أن يلعب لعبة «اختراع» قيادات معارضة لإيهام العالم أنه ينخرط في عملية إصلاح حقيقية وأن هناك حوارا فعليا مع رموز الحركة الاحتجاجية السلمية الرافضة للعنف التي لا صلة لها بما يسمى «عصابات الإرهاب» التي يجري تحريكها من الخارج من قبل دول تستهدف «ممانعة» سوريا.

في الأحوال كلها، ومع أن النجاحات لم تأتِ بالمستوى الذي كان يجب أن يترتب على هذه التضحيات الجسام العظيمة كلها فإن ما هو ثابت ولا نقاش فيه أنه لا عودة لما كان عليه الوضع قبل انفجار هذه الثورة الشعبية، فمعادلة أنه إن لم يبادر النظام إلى التغيير الإرادي فإنه سيجري تغييره هو نفسه وبالقوة، لا تزال قائمة، فعجلة الإصلاح مستمرة في الدوران في المنطقة كلها، وأنظمة الحزب الواحد والقائد مبعوث العناية الإلهية لم تعد مقبولة، وحركة التاريخ لن تتوقف، والشعب السوري العظيم لن يسكت على الظلم حتى وإن طال مدى هذا الظلم.

قبل أيام أطلق وزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه تصريحا قال فيه: إن العنف لا يمكن أن يضمن الاستقرار، وإن الديمقراطية هي التي تؤدي إلى الهدوء، وحقيقةً فإن الإفراط في البطش سيزيد الشعب السوري إصرارا على تحقيق بعض أهدافه، إن لم تكن كلها، فتجربة حماه عام 1982 لن تتكرر، ولأن حالة الغليان في المنطقة مستمرة ومتواصلة فإن جذور الاحتجاجات التي بدأت في درعا في 15 مارس (آذار) عام 1982 سوف تبقى متقدة وهي ستتجدد حتما حتى إن تراجعت بعض الشيء، وهذا يجب أن يعرفه الرئيس السوري بشار الأسد؛ إذ «ليس في كل مرة تسلم الجرة».

ثم، وحتى إن هدأت هذه الموجة وتوقفت تحت قسوة الإفراط في العنف والقمع وتحت سطوة الاستفراد، فإنه لا بد من أن تترك أعراضا جانبية، فالمعروف أن الجريح لا يصحو على ما أصابه إلا بعد أن يبرد الجرح، ويقينا أن ما جرى ستترتب عليه تحولات كبيرة وسيكون بمثابة الشرارة التي ستلهب الحقل كله، وهنا وقد وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه فإنه على الذين يمسكون بالسلطة في دمشق بأسنانهم وأظافرهم أن يدركوا أن كل ما يقومون به من معالجات تسكينية وتخديرية لن يفيد، وأن كل هذا الضغط الذي مورس والذي يمارس على الشعب السوري سيؤدي إلى انفجارات زلزالية وفي المدى القريب.

العرب يقولون: «لا ينام الثأر في صدري وإن طال مداه».. ولقد كان على الرئيس بشار الأسد أن يدرك أن العنف لن يولد إلا عنفا أشد منه، وأن الدماء عندما تجري على هذا النحو فإنها ستؤدي إلى المزيد من أنهار الدماء، وأن عليه، وإن كان هذا قد أصبح صعبا، أن يتدارك الأمور قبل أن تصل إلى نقطة اللاعودة وقبل أن تكبر كثيرا كرة الغضب المتدحرجة في اتجاه القصر الرئاسي من فوق جبل قاسيون الذي تغنى به شعراء البعث بعد مارس 1963 مباشرة:

من قاسيون أطل يا وطني

لأرى دمشق تعانق السحبا

ودمشق ستعانق السحب بالتأكيد، والأيام مقبلة وسنرى.. ويأتيك بالأخبار من لم تزود.