المركزية الفكرية الأوروبية إلغاء لحوار الحضارات

TT

حوار الحضارات، أو في ما معناه («تعارف الحضارات» كما يقول البعض، «تحالف الحضارات» كما يرى البعض الآخر)، مشروع إنساني وجهته المستقبل وهو يعنينا جميعا، بل لعلنا نحن العرب نكون أكثر الشعوب اهتماما به. الحوار يدل على إرادة الانفتاح على الغير المخالف، ومصلحتنا في هذا الانفتاح أكيدة. والحوار بين الحضارات يعني الرغبة في التفاعل الإيجابي مع الحضارات الأخرى، غير العربية - الإسلامية، ومستقبلنا الإنساني كما نحلم به لا يكون بغير هذا السبيل من حيث إن الحوار لا يلغي ذات المحاور ولا يشوهها، بل العكس هو الصحيح.

أما المركزية الأوروبية Européocentrisme فهي تقف في وجه الحوار عائقا كبيرا، لا بل إنها جدار مانع وهوة سحيقة تفصل عالمين، جهتين، طرفين. هذه النزعة مرت بطورين أحدهما لا يزال حيا قائما وفاعلا خطيرا، والآخر فيما نتخيل أن النسيان قد طواه لا يزال بين الفينة والأخرى يطفو على السطح، لا بل إن هذا الآخر الحي الذي نشير إليه إنما هو الأول ذاته في صورة جديدة، في قالب جديد أكثر انسجاما مع طبيعة العالم الغربي المعاصر.

لنحاول التوضيح وكذا الإبانة عن الأسباب التي تكون بها المركزية الفكرية الأوروبية (في صورتيها القديمة والمعاصرة) عائقا قويا يقوم في وجه الحوار بين الحضارات ومد أسبابه، وهوة سحيقة تقوم بين الغرب والإسلام من حيث هو، ضرورة، طرف في الحوار اليوم.

النزعة المركزية الأوروبية، في نعت عام لها، موقف يقوم على إخضاع كل القضايا التي يكون النظر فيها إلى منظور أوروبي محض. يصح القول، في عبارة أخرى، إن أوروبا تغدو، عند أصحاب هذه النزعة ودعاتها، هي المركز الذي يكون الانطلاق منه ثم الرجوع إليه، وهي المنظار الذي لا يدرك العالم، مع شساعته، إلا بالنظر إليه من خلاله. النزعة المركزية الأوروبية ترى في أوروبا (يمكن الكلام بنفس الكيفية عن «الغرب») ذاتا ثقافية جماعية، غير أنها، في الحقيقة، ذات متوهمة لا واقعية.

الحق أن هذه النزعة، شأنها في ذلك شأن كل النزعات التي تتمركز حوا الذات، تعبير عن مرحلة من مراحل النمو النفسي عند الطفل (كما تفيد مدارس التحليل النفساني المختلفة)، غير أنها مرحلة يتوقف النمو عندها في الحالات المرضية، الشأن ذاته في «النرجسية» مثلا، لذلك يعبر عنها بـ«الأنانية» نسبة إلى الأنا أو «Ego» ومن ثم عبارة «Egocentrisme».

في القرن التاسع عشر ظهرت نظريات تتوافق، كلية، مع تطور أوروبا من حيث إنها قوى استعمارية هائلة ممثلة في الاستعمار الفرنسي والإنجليزي والإسباني والبرتغالي والإيطالي والألماني، بكيفية أقل. من بين هذه النظريات تلك التي تقضي بوجود الأجناس البشرية من حيث إنها تتفاضل في ما بينها. أما أرقى الأجناس وأقدرها على الإبداع الحضاري فهو الجنس الآري، وأما في الدرجة الدنيا فنحن نجد الجنس السامي (والعرب، كما نعلم، ينتسبون إلى هذا الأخير).

لسنا نريد أن نخوض في حديث شغل الفكر العربي الإصلاحي في نهايات القرن التاسع عشر وشطر من القرن الماضي يتصل بأخطاء هذا الاعتقاد وبالدفاع عن الإسلام حضارة وإبداعا إنسانيا. غير أننا نريد أن نشير إلى أن نظرية الأجناس البشرية والتفاضل بينها أوقعت الفكر الغربي في جملة من الأوهام التي كبلته وشكلت بالنسبة له عوائق تحول دون تأسيس معرفة علمية صحيحة من جانب أول، مثلما أنها أقامت سدا منيعا في وجه كل دعوات الحوار والالتقاء بين الحضارات من جانب ثان، فلم تخف نيران هذا الاعتقاد الزائف إلا مع ظهور حركات التحرر الوطني في البلاد التي رزحت تحت نير الاستعمار الأوروبي عقودا من الزمن.

لم يأخذ الفكر الغربي المعاصر من التحرر من وهم «الأجناس البشرية» والمفاضلة بينها إلا مع ظهور تيارات إنسية جديدة، كان «رسل» من دعاتها في بريطانيا، ثم بكيفية أكثر عمقا ومنهجية المفكر الفرنسي كلود ليفي ستروس. ربما وجب التنويه، مع ضيق المجال، بكتاب شهير له هو «العرق والتاريخ»، كتاب أبان فيه، من جانب، أنه لا وجود لأمة أو شعب من شعوب العالم كان عاريا من الحضارة والإسهام في الحضارة البشرية العظمى. وأظهر فيه، من جهة ثانية، أن كل حضارة بشرية، أيا كان تواضعها وبساطتها، هي دوما أرقى من كل الأحوال السابقة، أو ما يسمى «حالة الطبيعة».

هذه المركزية الأوروبية هي التي ستظهر في صور جديدة مع نهاية الحرب الباردة وانقضاء عهد القطبية الثنائية، وظهور، ثم هيمنة، نظام القطبية الواحدة كما تمثله الولايات المتحدة الأميركية. وكما صادفت النزعة المركزية الأوروبية في القرن التاسع عشر أنصارا لها في بعض العلماء والمفكرين، فإن النزعة الجديدة ستجد رجال آيديولوجيا يجتهدون في صياغتها وتحسين صورتها. وقد يجب أن نذكر في هذا الصدد كلا من المفكر الأميركي الياباني الأصل فوكوياما ونظريته وكتابه «نهاية التاريخ»، كما نذكر الأميركي الآخر صامويل هنتنغتون الشهير بنظريته التي صادفت انتشارا واسعا ونقل كتابه إلى اللغة العربية في ترجمات متعددة: «صدام الحضارات». ثم إن المحافظين الجدد في أميركا وفي بريطانيا وحلفائهما هم الدرع الواقي والقوة الضاربة لهذه النظرية وما شاكلها.

إن الدعوة للنقد الجذري للنزعة المركزية الأوروبية (في صورتيها القديمة والمعاصرة) هي إسهام في الدعوة إلى الحوار بين الحضارات، مثلما أن في هذا النقد تحريرا لذواتنا المفكرة وإمدادا لنا بالثقة والأمل معا. في هذا النقد أخيرا إسهام في تحرير العقل العربي ذاته من أوهام لا تزال تطوقه بأغلال وسلاسل ربما كانت أشد بأسا من الحديد.