مصر: «قصة مدينتين»

TT

مقالة الدكتور مأمون فندي «مصر: قصة منظمتين» (الأحد 22 مايو/ أيار) تتناول قضية تاريخية متعمقة في الحالة السياسية المصرية. صراع بين تيارين تربطهما علاقة جدلية وجودية، لأن غياب أحدهما فيه هلاك الآخر. الصراع بين منظمة الشاب، التنظيم الخفي للدفاع عن الدولة البوليسية الناصرية، والتنظيم السري للإخوان، هو ضرورة حتمية.

ليس لأن أحدهما يريد الإجهاز على الآخر، بل لأنه ضرورة تحتمها غريزة البقاء السياسي.

الصديق فندي استبدل ببراعته الفقهلغوية «مدينتين» بـ«منظمتين» في رواية تشارلز ديكنز (1812 - 1870) قصة مدينتين (1859) عن أحداث قبل وأثناء الثورة الفرنسية في لندن وباريس. (لغير المتخصص في الأدب الإنجليزي: ديكنز جال في لندن القرن الـ19 كجولة نجيب محفوظ في قاهرة الثلاثينات). الرواية (باعت 200 مليون نسخة حتى اليوم) فسرها البعض برغبة ديكنزية في مقارنة استقرار لندن (الراكد) بحراك باريس بدموية لا تستسيغها الثقافة الإنجليزية.

لكني سأعود لـ«قصة مدينتين».

التنظيم السري للإخوان – وفروعه العالمية – لا يزال وسيلة الحماية بالقوة (بكافة أشكالها) للجماعة وفكرها وأهدافها رغم إنكارها لوجوده (من الذي دبر محاولة اغتيال الكولونيل عبد الناصر في المنشية وأعد السلاح، عندما «رجع الكولونيل في كلامه» ولم يمنح الجماعة ما وعد به من مكاسب مقابل دعمه سياسيا عندما رفضت الأحزاب المدنية والقوى الوطنية التعاون مع انقلابه العسكري غير المشروع؟).

ذكر الدكتور فندي قضيتي 1993 و2010، وأضيف بأن التنظيم موضوع في «الفريجيدير» أو في الترموس (الذي يحفظ الشراب في درجة حرارة ملائمة للاستهلاك) لتفعيله وتنشيطه «عند الحاجة»، بالتشديد على العبارة. لأنه باستثناء القضيتين - وكانت الثانية في العام الماضي بمبادرة من النظام المباركي أكثر منها تحرك الجماعة في تهديد حقيقي للنظام - لم تظهر حاجة تاريخية تدفع الجماعة بتضحيات دموية بخوض مواجهة مع النظام (كما ضحت «كفاية» وحركة 6 أبريل، والمجموعات المدنية بشهداء ثورة اللوتس في يناير/ كانون الثاني، وفبراير/ شباط 2011 للحاجة للحرية). العلاقة الجدلية الوجودية بين منظمة الشباب (والتنظيم الطليعي) منحت التنظيم السري شرعية غير معلنة.

إثارة النظام لقضايا التنظيم السري، والقبض على زعامات الإخوان – وهم أعضاء في التنظيم - تعطي الجماعة تعاطفا شعبيا، والشهادة الرمزية بالتضحية في سبيل العقيدة، مما يقوي من وجودها شعبيا.

في المقابل لوح النظام براية تهديد الأصولية الإسلامية والعنف السلفي (كالتلميح بالأصول الانتمائية الإخوانية للدكتور أيمن الظواهري منظر «القاعدة»، وهي انتماءات موثقة لدى المخابرات الغربية). صحافة النظام والفضائيات باعت لصحافة غربية، كسولة البحث، تراما بيافطة «البديل للوطني المباركي هو الجماعة المحظورة» (وهي محظورة نظريا فقط)، مما أجل الاعتراف بالحقيقة الغائبة: ديمقراطية الشعوب «اللي ماتعرفوهاش» أفضل من استقرار النظام «اللي تعرفه». حتى اعترف بها الرئيس باراك أوباما في أم البرلمانات الأربعاء الماضي.

الدكتور فندي ذكر حقائق موثقة وليس رأيا أو تحليلا بأن المواقع القيادية، من وزارات إلى صحافة إلى اقتصاد إلى دبلوماسية إلى جامعة عربية في نظام مبارك، احتلها خريجو منظمة الشباب الناصرية.

أصحاب المواقع القيادية الحالية (ومجلس وزراء غير منتخب بل معين) بعد ثورة اللوتس من منظمة الشباب. بل المتنافسون على ترشيحات الرئاسة (باستثناء الدكتور محمد البرادعي)، من منظمة الشباب؛ مما يفسر تلويحهم برايات القومية العربية ومعاداة إسرائيل بدلا من تسوية فلسطينية إسرائيلية. «الفتونة» امتداد للمشاغبة الناصرية التي بدأت الحرب في 18 مايو 1967 (بحصار إسرائيل بحريا من خليج العقبة، وطرد مراقبي الهدنة وتصويب المدافع على حدود إسرائيل وانتهاك مجالها الجوي مخالفة لاتفاقيتي هدنة 1949 و1956)، وصل الاشتعال أوجه في 5 يونيو (حزيران) وخسارة معدات مملوكة لدافع الضرائب المصري الذي خسر زهرات شبابه في جيش انشغل قادته عن الدفاع بالاستيلاء على مناصب الحكم والاقتصاد. وهو التنظيم نفسه الذي خرج لصرف أنظار الشعب عن الأسباب الحقيقية لهزيمة 1967، مما أجل ثورة ميدان التحرير 44 عاما.

منظمة الشباب في الاتحادات الطلابية والعمالية أخرجت المظاهرات المدفوعة الأجر (9 يونيو 67 بروفة معركة الجمال والخيول في ميدان التحرير؟) لمبايعة المسؤول عن الهزيمة رئيسا بدلا من تقديمه للمحاكمة.

أول خبرتي بمنظمة الشباب كانت مقابلة في فبراير 1967 مع خريج مصري دفع أبوه – صيدلي ميسور - رشاوى لاستخراج جواز سفر له وتهريبه من مصر إلى أقرباء في كندا.

كان الشاب ضمن ثالث مجموعة «جندت» من خريجي الهندسة والزراعة والحقوق في معسكر المنظمة جنوب حلوان. ومثل تدريب شباب هتلر، عزلوا في مناطق نائية بحرمان النوم والراحة والإرهاقين البدني والنفسي تمهيدا للسيطرة السيكولوجية. وعزل الشاب نفسيا وذهنيا فيصبح متوكلا على التسلسل القيادي في الطعام والراحة والحصول على امتيازات (كشراب ماء أثناء التدريب في قيظ الشمس). وزرع الآيديولوجيا الشمولية في الدماغ. ثم خلق شعور انتماء للمجموعة في الخيمة والخلية والشعبة، كبديل عن الانتماء الأسري. الأب الصيدلي قرأ عن الشباب الهتلري أثناء الحرب العالمية فزود ابنه (21 عاما) سرا بحبوب تبقي ذهنه متيقظا لعمليات الإيهام السيكولوجي.

دون الشاب مذكراته يوميا، حتى كشف أحد زملاء الخيمة الأمر وسلم النوتة «للقيادة السياسية للمعسكر». لم ينتظر الشاب جلسة «النقد الذاتي» بعد الغداء فهرب ومزقت الأسلاك الشائكة ساعديه، ووصل إلى متجر خاله في حالة يرثى لها من الجوع والعطش. الأسرة تبعته إلى كندا، بعد ملاحقة الأب واستجوابه واضطر للكذب بأنه لا يعرف مكان ابنه. ولذا أشارك الدكتور فندي القلق الشديد على مصير المحروسة، من سيطرة الهتلريين من التنظيم السري الناصري. فهم لا يعرفون شيئا عن الديمقراطية والتمثيل النيابي والانتخابات. الإيهام السيكولوجي في معسكرات المنظمة كان بهدف إزالة أي ذكريات حكاها جيل الآباء عن الحياة النيابية التي استمرت من 1922 إلى 1954، ولم يستطع الإخوان، سواء علنا أو بالتنظيم السري الإجهاز عليها، حتى حقق انقلاب 1952 غير الشرعي ما كانوا يدعون إليه بعد كل صلاة. وأشارك الدكتور فندي ريبته في سؤاله للمجلس العسكري عن السماح بعودة صراع المنظمتين. لكني أنبه إلى صراع مدينتين. مدينة وادي يوليو (تموز) 52، وضفتيه التنظيم السري ومنظمة الشباب، هي في صراع مع مدينة تكبرها ببضعة آلاف سنة. مدينة مصر الأم المحروسة. مصر المدنية التي رفضت الاثنين (بدليل أن الإخوان اكتفوا بخوض انتخابات 2005 في أقل من مائة دائرة من أكثر من 600 لأن سكان باقي الدوائر وعوا خطورة وخراب آيديولوجيتهم وخططهم الغائبة على مصالحهم من سياحة وصناعة وتجارة).

الصراع الممتد بين المنظمتين منذ الستينات، والذي يعود اليوم إلى واجهة الساحة المصرية إنما هو صراع مظهري بقصد صرف الأنظار عن مطالب مشروعة لمدينة الحضارة والجمال، مصر المحروسة. مطالب عودة حياة مدنية نيابية ليست مستوردة، وإنما انبثقت من واقع الحياة المصرية، السياسية والثقافية والاقتصادية سنوات قبل أن تسمع مصر بالتنظيم السري وبالإخوان وبحسن البنا وسيد قطب.

انبثقت عقودا قبل أن تسمع بالضباط الأحرار وانقلاب يوليو والقومية العربية ومنظمة الشباب، والنكسة والوكسة وغيرها من مخدرات العقل الجماعي.