وبعد الثورة: من ليس شابا.. هل انتهت صلاحيته؟

TT

سقط النظام في مصر بأسرع مما يتوقع أو يتخيل أحد وكأن أركانه كانوا يتوقون إلى ذلك أو يعملون على الوصول إليه منذ زمن بعيد. غير أن السرعة الخاطفة التي ذهبوا بها إلى عالم النسيان، حرمت القادمين من بعدهم من فرصة التفكير في دلالة الأحداث قبل وقوعها أو في أثنائها. إن الصراع الطويل مع أي نظام بغض النظر عن وسائله يعطي للثوار الوقت والفرصة للتفكير في ما يجب عمله وتقديمه للناس كبدائل عن كل ما هو قديم أو معطل. وهو ما يحدث في ليبيا الآن من تجهيز لمؤسسات ومهمات وقيادات وبشكل تفصيلي، والعمل - قبل سقوط النظام - على تمتين علاقات الثوار بكل من يمد لهم يد المساعدة. هم يرسمون ليبيا في عقولهم قبل أن يجسدوها على الأرض.

هكذا تسبب السقوط السريع للنظام في أن الثوار في اللحظة التي قرروا فيها الإجهاز عليه، كان قد رحل تاركا طاقة الغضب الثورية بكل عنفوانها مكتومة في صدورهم. لذلك ستلاحظ أن كل طرف الآن اختار لنفسه عدوا يقذفه بالكلمات أو باللكمات في جلسات الحوار. هكذا بدأت محاولات الإقصاء والنفي (negation) أو بمعنى أدق، الصراع علn تورتة لم تخرج بعد من الفرن أو لحاف ليس له وجود، أو الشجار مع بعضهم البعض للجلوس في الصف الأمامي في قاعة مسرح لم يقدم عروضه بعد. ولأن الانفعال الشديد يعطل التفكير الصحيح، لذلك كان من الطبيعي أن تفتح جبهة قتال جديدة بين الشبان والعجائز بعد أن اكتشف الشبان أنهم ليسوا عجائز في الوقت الذي اكتشف فيه العجائز أنهم ليسوا شبانا، على الأرجح بدأت المعركة عندما أصدر أحد الشبان البيان رقم واحد الذي قال فيه: كبار السن فقدوا الصلاحية.. هم (expired)

اسمع يا بني.. فقدان الصلاحية ليس له صلة بالسن، هو يحدث فقط لبعض الناس عندما يتصورون أن الآخرين لا أهمية لهم.. هذا هو بالضبط خطأ النظام السابق.. وعموما، اسمح لي بوصفي أحد العجائز أن أقول لك.. لم أصبح عجوزا بمزاجي، ولو كان الأمر بيدي، لكنت قد أصدرت قرارا بأن أظل إلى الأبد في الثلاثين من عمري.

الواقع أن الحوار الدائر في مصر الآن ليس حوارا، بل كلام والفرق بينهما كبير يعرفه المسرحيون جيدا. الحوار هو نفسه الفعل وقد تحول إلى صوتيات، هو الفعل أو ما يجسده أو ما يؤدي إليه، أما الكلام المقترن بالعجز عن الفعل أو تجاهله فهو أشبه بالطريق الدائري الذي يعود بك دائما إلى نفس النقطة التي بدأت منها. هناك نكتة من أربعينات القرن الماضي ربما توضح لك ما أقصده.. أحد المساطيل الذي يجلس على الرصيف سأل سائق حنطور يمر أمامه: يا أسطى.. لو أنا ركبت منين لفين، أدفع كام؟

فرد عليه: انزل هنا وادفع اللي عاوز تدفعه.

لا أحد يقترب من مشكلة حقيقية بهدف حلها بل لإغراقها في بحر الألفاظ، ولذلك ستلاحظ وجود عشرات الشعارات على الشاشات الصغيرة تتكلم عن العمل ولكنها لا تدفع الناس إليه، سأحدثك عن أمر بسيط للغاية وواضح أشد الوضوح ولعل ذلك ما جعل الناس لا تلتفت إليه، المصريون لا يعملون في الصباح مثل بقية خلق الله في كل أنحاء المعمورة، وذلك منذ أن صدر قرار منذ سنوات طويلة بأن تفتح الورش والمحلات أبوابها في العاشرة صباحا، وبمرور الأيام وجد الناس أنه من الأفضل أن يبدأوا العمل بعد الظهر، هكذا يضيع من اليوم نصفه من غير مبرر مفهوم، وكأننا نعشق الوصول دائما لنقطة الصفر لنتفرغ بعدها لطلب المساعدات والمعونات من كل الدول التي يستيقظ ويعمل أهلها في الصباح الباكر.

وفي الطريق الصاعد من الثورة إلى الاستقرار لا بد من الوقوف طويلا أمام محطة جماعة الإخوان المسلمين المصرية التي تبدو في أذهان الكثيرين، الجهة الوحيدة المؤهلة للوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع بحكم تماسكها وإدارتها الصارمة، وأيضا بحكم الترحيب العريض بها في أجهزة الإعلام ومنها إعلام الدولة. هذه هي المرة الأولى في تاريخ الجماعة التي لا ترى فيها السلطة أو الناس خطرا يهددهم. الواقع أن الخطر الوحيد الذي يهدد جماعة الإخوان يأتي من داخلها وهو ككل الأخطار الكبيرة لا يبدو واضحا في البداية، هناك أشياء في السياسة أشبه بخيوط العنكبوت تعجز عن الإحساس بها إلى أن تلتف حولك. وهنا لا بد من التنبيه إلى أنني أفكر في الجماعة بوصفها جماعة سياسية، فعندما يتعلق الأمر بقيادة المجتمعات فهذه هي بالقطع ما نسميه السياسة، ولست في حاجة إلى القول إن أعضاء الجماعة بشر، يأكلون ويشربون ويتألمون ويفرحون ويشعرون بالغيرة وخصوصا المرضي منها تماما ككل الجماعات والأحزاب السياسية، وهذا ما يفسر إبعاد الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والدكتور حبيب الذي كان نائبا للمرشد السابق، أنا أزعم أن الغيرة المرضية هي السبب في استبعادهما، من المستحيل أن أتصور أنهما خرجا من الجماعة لأسباب دينية كأن يكونا صاحبي مذهب مختلف مثلا. وبخروجهما تكون الجماعة قد نسفت الجسر بينها وبيم قيم العصر الذي نعيشه وفي مرحلة الثورة حرصت الجماعة على إطلاق حملة من اللطف السياسي مع كل الجهات والفئات والأحزاب والائتلافات، لذلك كنت تراها ممثلة في كل الاجتماعات والمؤتمرات والتربيطات، مسلحة بالوجوه السمحة والابتسامات اللطيفة بالإضافة بالطبع إلى شعارات قوية عن المجتمع المدني وعن أن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية بالمعنى الذي عرفه الغرب.

أعتقد أن فترة اللطف السياسي انتهت، والجماعة الآن عادت إلى قواعدها بعد أن أطلقت نجما جديدا أو صاروخا في سماء السياسة هو الأستاذ صبحي صالح الذي أعلن بكل وضوح أنه لا يعترف بوجود ما يسمى بالمسلم الليبرالي أو العلماني، أما عن مستقبل الجماعة السياسي فقد أوضح أنهم «جايين جايين.. وقاعدين قاعدين».. فجرت أقواله قنبلة في الأوساط السياسية والإعلامية، ولكنه أوضح أنه كان «بيهزر» وأنه لم يكن يقصد ما فهم من كلامه وأنه.. وأنه.. ومن المستحيل أن يكون.. إلا أنه.. وبذلك يكون.. إذ ربما.. ولكن على كل حال.. أو على بعض الحال..

من الواضح أنه أستاذ في الكلمات من ذلك النوع الذي يقول عنه الشعب المصري «يوديك البحر ويرجعك عطشان» أنا أعتقد أنه صادق في كل كلمة قالها ويقولها، هو بالفعل يعبر بالفعل عن التيار العام داخل الجماعة وقادر على قول ما يعجز الآخرون عن إعلانه.. لقد أوضح ما أثبتته تجارب المنطقة من قبل وهو أن جماعات الإسلام السياسي تمثل أعضاءها فقط وأنها عاجزة عن تمثيل الشعب بكل طوائفه.