عندما يكون البقاء هو الغاية

TT

ما تشهده المنطقة حاليا ليس مجرد سقوط لأنظمة أو رؤساء تعودنا على رؤيتهم في زعامة بلدانهم لعقود حتى بدا أنه من الصعب التمييز بين الرئيس وبلده، بل هي أيضا عملية إسقاط لعدة أساطير حكمت السياسة في الشرق الأوسط.

أولى تلك الأساطير كانت أسطورة استحالة التغيير في الشرق الأوسط، والأكثر من ذلك استحالة أن يتم التغيير عبر شعوب المنطقة. كانت تلك الأسطورة راسخة لدى الأنظمة نفسها التي تعرضت أو تتعرض للتغيير، وفي العديد من مؤسسات البحث الغربية، وفي خطاب الصحافة الإقليمية والعالمية. لقد تغذت تلك الأسطورة وغذت بقاء الديكتاتوريات في المنطقة لأنها أعطت الانطباع بأن «كل شيء على ما يرام» وأنه أمر عادي وبديهي أن يكون اسم بن علي دائما مرافقا لتونس ومبارك لمصر وصالح لليمن والقذافي لليبيا، بل إن الوصلة السنوية للأخير في القمة العربية باتت بدورها شيئا معتادا وكان يمكن لها أن تستمر لسنوات أخرى لو لم تنطلق الانتفاضة الليبية. بدا أن الموت الطبيعي هو السبب «الشرعي» الوحيد للمغادرة، وحتى هذه المغادرة كانت تتجه نحو أن تصبح استبدالا طقوسيا تنتقل فيه السلطة من الأب إلى الابن، ويظل لقب العائلة في أعلى هرم السلطة كدلالة على الاستمرارية لا الانقطاع. كانوا يريدون الاستمرار حتى بعد موتهم، لأن التوريث الذي تحقق في حالة بلد جمهوري واحد وكان على وشك التحقق في أربعة بلدان أخرى يعبر عن هاجس بالأبدية، بترسيخ ارتباط اسم البلد باسم الزعيم، ومن ثم باسم عائلة الزعيم، كخطوة أخرى نحو تأكيد حالة التطابق بينهما حيث البلد هو الزعيم والعكس صحيح.

في الحالات الأكثر مرضية كحالة القذافي وقبلها حالة صدام، كان هذا التماهي بين «الوطن والقائد» هو البعد الرئيسي في خطاب السلطة، بل إنه يتحول إلى «عقيدة» و«أيديولوجيا» تلقن للأطفال منذ الصغر. ما الذي يعنيه ذلك؟

إنه يعني أن هذه الأنظمة كفت عن أن تجد عذرا للبقاء سوى البقاء نفسه. فأعذار الصعود للسلطة التي عرفتها الجمهوريات العربية منذ الخمسينيات كانت تستند على أيديولوجيات استقلالية وقومية ويتركز خطابها على مقارعة الإمبريالية والتنمية والتحديث. بغض النظر عن مدى الصدق في هذا الخطاب، كان بالإمكان أن نتوسل أعذارا ذات صدى شعبي تستدعي بالمقابل صبرا على غياب الحرية والديمقراطية، ولكن عندما بدا أن هذه الأهداف نفسها باتت غير قابلة للتحقيق، بل إن نتائجها العكسية كانت أكثر قوة، لم يبق من عذر آخر سوى الحديث هذه المرة عن الاستقرار، ومنع الفوضى، ومحاربة القاعدة. أي إن تلك الأنظمة انتقلت من تعريف دورها إيجابيا بوصفه يهدف إلى تحقيق شيء، إلى أن تعرف دورها سلبيا بوصفه يهدف إلى منع حصول شيء. فوجودنا ضروري لأن بديلنا هو الفوضى أو الحرب الأهلية أو التقسيم أو «القاعدة»، جميعهم جربوا مؤخرا هذا النوع من الخطابات، لكنهم بالمقابل وبعد عقود من الانتظار والتجريب فقدوا أي مصداقية لدى الناس، حتى فيما يقدمونه من وعود.

مطابقة البلد بالزعيم كانت تعبيرا عن عدمية مغلفة، ضمنا هي استعداد لنفي وجود البلد بانتفاء وجود الزعيم. البقاء طويلا في السلطة جعلهم لا يجيدون القيام بشيء، غير البقاء في السلطة. والانتقال من الأيديولوجيات «الثورية» القديمة نحو معادلة البقاء أو الفوضى عبر عن حقيقتين: الأولى أنهم عاجزون عن أن يحققوا تنمية فعلية بعد أن أصبح كل منهم محاطا بطبقة من المريدين والانتهازيين ورجال الأمن ورجال الأعمال الذين يمثلون فلترا بين الحاكم والمحكوم، وإذ يسولون للحاكم البقاء بوصفه «مصلحة للبلد» فإنهم يمثلون عوامل رئيسية لبقائه بحكم اعتماده شبه المطلق عليهم. ولذلك، لمن يريد أن يعرف لماذا يستبدل علي عبد الله صالح موقفه كل يوم، وأحيانا خلال ساعات، لا يكفي أن ننظر في سيكولوجيا الرجل، بل يجب أن نحدق أيضا في عيون المحيطين به، تلك الخائفة من رحيله على نفسها.

الحقيقة الثانية، أنهم إذ يخوفون بالفوضى وبالتقسيم وبالإرهاب وبالحرب الأهلية، فقد عملوا طويلا لزرع بذور كل هذه الأشياء. فعندما يكون هدف وجودك بالسلطة البقاء فقط، وعندما تغيب الآليات الديمقراطية التي تجعل هذا البقاء مرهونا بالإنجاز، فإنك تعمل على تكريس جل جهدك على أن تجعل البقاء هو الخيار الوحيد. لن يكون مفاجئا إذا اكتشفنا أن جزءا كبيرا من بعبع «القاعدة» مصنوع في أروقة الاستخبارات التابعة لتلك الأنظمة، أولا للتلويح للغرب بأن ثمن محاربة الإرهاب هو القبول ببقاء هذه الأنظمة ودعمها بوصفها «الشريك الأفضل» في الحرب على الإرهاب، وثانيا لإخافة الناس مما تعنيه «القاعدة» من تدمير وفتك وقتل وفوضى، والصور القادمة من العراق وأفغانستان وباكستان حيث تنشط «القاعدة»، كفيلة بتذكير الناس بما يعنيه صعودها. التلويح بالطائفية يخدم ذات الغرض، ويكفي ما ترشح من معلومات عن دور وزير الداخلية المصري السابق في تفجيرات الكنائس لنفهم هذه اللعبة وطبيعتها و«دناءتها»، فهؤلاء لا يكتفون بالسياسة وسيلة للعب على الاختلافات الاجتماعية قبلية أو طائفية أو اثنية، بل يخلطونها بالنار والقنابل، لأنه بعد أن تحرر الشباب من خوف الاحتجاز في الأقبية الأمنية والتعذيب التقليدي الذي ما عاد سلاحا فاعلا، صارت هنالك حاجة لشكل آخر من العنف ذلك الذي يوجه كراهية المواطنين تجاه بعضهم ويصعب أن يلام عليه طرف واحد بعينه. لا أنكر هنا أن مجتمعاتنا اليوم جاهزة بقدر كبير لإثارة النزعات الطائفية والدينية المتشددة لعوامل معقدة وكثيرة، لكن من الصعب إنكار دور هذه الأنظمة في إيقاظ الظاهرة الطائفية كوسيلة حماية أخرى.

إن ما تواجهه هذه الأنظمة اليوم هو تداعي الكثير من الأساطير التي صنعتها، وفقدانها التدريجي لما تبقى من أدوات البقاء إلى الحد الذي بدأت تتعرى فيه بشكل غير مسبوق، وتتخبط عبر الوعود الزائفة والقرارات المرتجلة والمواقف المتغيرة بل والخطاب المرتبك، فمرة يوجه اللوم إلى «المؤامرة الغربية - الأميركية المدبرة في واشنطن وتل أبيب» والتي أخرجت أبناء البلد إلى الشارع لتحدي النظام، وتارة يتم تذكير الأميركيين والغرب بأن النظام هو الأقدر على حماية مصالحهم من خطر «القاعدة» و«الشعوب الفوضوية». المشكلة أنه عندما يغدو البقاء هو الغاية الوحيدة، لا يعود بالإمكان التصرف إلا على هذا النحو المكشوف حيث «قائد الشعب» يعلن صراحة عن استعداده لحرق الشعب بمن فيه، متوسلا نجاته بفوضى لا تفرز بديلا يتيح للشعب أن يرى الحياة من دونه.