الإحسان: صدقة أم سياسة؟

TT

هناك مدرستان في الغرب في معالجة المشكلات الاجتماعية وإغاثة المحتاجين. تسود الأولى القارة الأوروبية وتأخذ الإطار الاشتراكي المؤمن بأن على الدولة أن تفرض الضرائب العالية على الموسرين وتستخدم الوارد لهذه الأغراض الاجتماعية. للفقير واجب على الدولة. سادت المدرسة الثانية الولايات المتحدة بإطارها الليبرالي الذي يحذر الدولة من التدخل في نشاط الأفراد وتترك للناجحين منهم مهمة الإحسان على المحتاجين ومد المؤسسات الخيرية. يحتقر الاشتراكيون هذا النهج ويعتبرون الخدمات الاجتماعية واجبا على الدولة.

عندما زار برنارد شو ستالين راح يندد له بالنظام الرأسمالي وكيف أنهم في لندن أخذوا يوزعون الخبز على العاطلين الجياع في الشوارع. أما بعد ذلك من حقارة؟ فأجابه ستالين قائلا هذا شيء جميل منهم؛ فالرأسمالية الحقيرة لا يليق بها غير مثل هذه الصدقات الحقيرة.

يعتقد الأميركان أن الأفضل من الحل الاشتراكي هو إطلاق العنان للفرد ليبدع وينتج ويربح ويكسب ثروة هائلة دون تدخل من الدولة ثم يقوم هو بتوزيع ثروته على من يعتبرهم أهلا للمساعدة. هناك آيديولوجيا كاملة وراء هذا المذهب. فهم ينظرون باحتقار تام للمليونير الذي لا ينفذ جانبه من الصفقة فلا يتبرع لأحد بشيء ولا يشارك الناس بها. هناك في أميركا الآن ألوف المؤسسات الخيرية والزمالات الدراسية والمراكز العلمية والصحية قامت بمثل هذه المبادرات الفردية دون تدخل من الدولة.

مشكلة هذه المدرسة أنها تتطلب الإيمان بآيديولوجيتها. ففي عهد مرغريت ثاتشر، حاولت استيراد هذه الذهنية لبلدها، ذهنية التبرع والإحسان، وفشلت. والآن يسعى كاميرون لتسويق نفس البضاعة تحت شعار «المجتمع الكبير». قابل الجمهور هذا المسعى بالشك والازدراء. فلسوء حظ الحكومة أنها سعت لتبني ذلك في أيام اتباع سياسة التقشف التي انطوت على إلغاء الكثير من الخدمات الاجتماعية. قالوا هذه حيلة لنقل هذه الخدمات من كاهل الحكومة إلى كاهل الجمهور، أو الموسرين منهم. عليهم أن يتبرعوا.

هذا موضوع أراه يرتبط بغريزة بقاء الأصلح. تثبت الأنثى جدارتها في تنازع البقاء باستعراض جمالها وصحة جسمها، ويثبت الذكر جدارته باستعراض ذكائه وقوته. فالملياردير بل غيتس أثبت جدارته بما فعله في دنيا الإنترنت ودرت عليه المليارات. كما أثبت اندرو لويد ويبر جدارته بما ألفه من أعمال موسيقية درت عليه مثل ذلك من ثروة. بيد أنهما أضافا إلى هذه الجدارة عملا جديرا آخر بخلود النوع وبقاء الأصلح؛ بأن كليهما تبرعا بما كسباه من ثروة لأوجه الخير. فالمليونير المحسن الذي كسب ملايينه بجده وعمله ومواهبه يثبت أولا جدارته وينال إعجابنا بها ثم يثبت ثانيا جدارته وإعجابنا به بتبرعه بها لبني الإنسان.

هل سيستطيع كاميرون غرس هذه الآيديولودجيا في نفوس الإنجليز الذين تربوا على فكرة مسؤولية الدولة عن المحتاجين؟ وأعود لألقي بالسؤال على مجتمعنا العربي. للكسب جماله وروعته ودوره في التنمية الوطنية للبلاد. ولكن للإحسان به له أيضا جماله وروعته ودوره في تطوير مجتمعنا وبكل ما يتطلبه منا من إعجاب وتقدير.