لم ينلني من الجمل غير أذنه

TT

بينما كنت أتحدث مع أحد الإخوة السوريين أخذ يردد على مسامعي كلمة (البرطلة)، وعندما استفهمت منه عن معناها، ذكر لي أنها (الرشوة)، وفي اليوم الثاني أرسل لي كتابا عنوانه: (البذل والبرطلة)، وهو دراسة موثقة عن تأريخ الرشوة في العهود الإسلامية، وهالني ما وقفت عليه من تفشي هذا الأسلوب المقيت بين الناس في كل المراحل تقريبا.

ويقال إن أول من رشا هو (ابن مسعود) رضي الله عنه عندما أسر في الحبشة فأعطى دينارين حتى أخلي سبيله، ويرون أن لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم.

وقيل أيضا إن أول من رشا في الإسلام هو (المغيرة بن شعبة) الذي ولي الكوفة في زمن (معاوية بن أبي سفيان)، ولا أظن أن ذلك صحيح، لأن الرشوة كانت تتم حتى في عهد الرسول الكريم الذي لعن صراحة (الراشي والمرتشي)، وكما جاء في الحديث الصحيح: أن الرسول استعمل رجلا من الأزد يقال له: (ابن اللتبية) على الصدقة، فقال هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقام الرسول عليه الصلاة والسلام على المنبر وقال: ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي، ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تبعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال اللهم هل بلغت (مرتين).

ولو أنني أستعرض لكم نماذج الرشوة التي يشيب لها الولدان لما كفتني كل أوراق هذه الجريدة، ولكن هذا نموذج صغير عن وزير يقال له: (يعقوب بن كلس) تولى الوزارة في عهد الخليفة (الظاهر) وكان لا يملك غير داره المتواضعة، وما إن خرج من الوزارة التي لم يمكث فيها غير عدة أشهر إلا وقد خلف من الجواهر ما قدرت قيمتها بأربعمائة ألف دينار، وبزا من كل صنف بخمسمائة ألف دينار، عدا تركة من الأملاك والضياع والرباع والعين والورق وأواني الذهب والفضة، والعنبر والطيب والثياب والفرش والمصاحف، والكتب والجواري والعبيد، والخيل والبغال والنوق والحمر والإبل، والغلال وخزائن الأشربة والأطعمة التي قومت بأربعة ملايين دينار سوى ما جهز به ابنته وبلغت قيمته مائتي ألف دينار.

وبما أنني مؤمن بمقولة: (من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر)، لذلك فلا بد أن أميط بعض اللثام عن تاريخي المجيد، وأعترف أنه قد سبق لي أن (برطلت) يوما عندما كنت طالبا في المدرسة وتعرفت وقتها على تاجر أحضر ملابس رياضية من الخارج، وأغراني لو أنني أقنعت الإدارة بشرائها، وسألته عما سوف ينوبني فقال: (الشرط أربعون، لنا عشرون ولكم عشرون)، وفرحت جدا وانطلقت إلى مدرس التربية الرياضية أعرض عليه الفكرة قائلا: الشرط من حصتي هي بيني وبينك (لنا عشرون ولكم عشرون)، فأعجبته الفكرة وعرضها على المشرف المالي في صندوق المدرسة ووافق لقاء اقتطاع جزء من (الكيكة) له، وتمت الصفقة بعد ذلك وعندما بدأ توزيع الغنائم لم ينلني من (الجمل غير أذنه)، وتوزعت كامل الأشلاء بين التاجر والمدرس والمشرف.

وإنني اليوم وبعد أن فشلت في أول محاولة، لا أملك إلا أن أرفع أكف الضراعة تائبا من أي (برطلة ومن يبرطلون).

[email protected]