حالة حرب معلنة

TT

إذا كان الزحف الشعبي الفلسطيني نحو الحدود قد وضع النضال ضد إسرائيل أمام نقطة انطلاق تاريخية جديدة، فإن خطابات أوباما ونتنياهو في واشنطن، وأمام منظمة «أيباك» الأميركية - الصهيونية، تضع المنطقة العربية بأكملها في أجواء حالة حرب.

لقد كان خطاب أوباما الأول خطابا شاملا ضد المنطقة العربية، حين سمى البُلدان بالاسم، وحين حدد لكل بلد ما عليه أن يفعل. حين أعلن رضاه عن هذا البلد وغضبه على ذلك. البلد المرضي عنه ستقدَّم له المساعدات المشروطة بمواصلة السير في طريق الديمقراطية؛ حيث الديمقراطية هنا اسم رمزي للالتزام بالسياسة الأميركية وبالمطالب الأميركية. أما البلد المغضوب عليه فعليه أن يدرك سلفا، أو حالا، المطالب والرغبات الأميركية، ويبادر إلى تطبيقها، وهو تطبيق يتخذ معنى واحدا، أن يتغير النظام باتجاه القبول بالشروط الأميركية.

وكان خطاب أوباما الثاني خطاب كشف للأوهام التي قد تكون موجودة في عقل أي مواطن عربي.. أوهام مؤمنة أو آملة، أن الرئاسة الأميركية، بحكم مسؤولياتها العالمية، لا بد من أن تتجه نحو نوع من العدالة، وبخاصة فيما يخص الشعب الفلسطيني، الذي يطالب بدولة مستقلة (تريدها أميركا)، وحسب حدود تعود إلى عام 1967 (تعترف بها أميركا)، وبما يضمن لإسرائيل السيطرة على 80% من أرض فلسطين (وأكثر)، وبما يبقي للفلسطينيين 20% من أرض فلسطين (وأقل). والأوهام، التي كان مطلوبا من المواطن العربي أن ينتزعها من عقله، تتعلق بالقدس، وبحق العودة للاجئين الفلسطينيين، وبإزالة المستوطنات المخالفة للقانون الدولي. لكن هذه كلها قضايا لم تكن موجودة في خطاب أوباما الأول، مقابل شيء واحد فقط هو حدود 1967. ولكن ما إن جاء الخطاب الثاني حتى تلاشت هذه القضايا الجوهرية كلها، وأصبحنا أمام رئيس دولة عظمى يتراجع عما أعلنه بنفسه، ويرضخ لشروط حليفه الصغير، ويتراجع عن حدود عام 1967، داعيا لقبول ما تطلبه إسرائيل بالكامل. وهي تطلب القدس عاصمة أبدية لإسرائيل. وتطلب التسوية على قاعدة الاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة، وبما يضمن التهجير (الترانسفير)، وهي تطلب أيضا تعديل حدود 1967 تحت شعار زائف يقول «بما يضمن الدفاع عن أمن إسرائيل». وهي تطلب البقاء على طول حدود نهر الأردن بحجة أنها الحدود الأمنية لإسرائيل. ويعني البقاء عند هذه الحدود الاستيلاء على مياه نهر الأردن، ويعني السيطرة على جبال الضفة الغربية المطلة على نهر الأردن، ويعني تهديد الأردن كدولة، مع كل «الاحترام» لاتفاق وادي عربة «السلمي».

لقد قيل الكثير عربيا وفلسطينيا عن خطابات أوباما وعن خطابات نتنياهو. وقيل الكثير أيضا عن انصياع الدولة العظمى لمطالب الدولة الصغرى. وقيل الكثير أيضا عن مغزى خطاب نتنياهو في «أيباك»؛ حيث استُقبل كإمبراطور، وحيث ألقى خطاب حياته كما قيل، وحيث وقف له كل زعماء الصهيونية الأميركية مصفقين 9 مرات. لكن شيئا واحدا لم يتم قوله بالوضوح الكامل، وهو ذو شقين:

الشق الأول: إن الخطابات قد أعلنت نهاية نهج المفاوضات، ذلك النهج الذي بدأ فعليا يوم اتفاق أوسلو عام 1993. وإن الخطابات قد أعلنت بدء دخول المنطقة العربية في حالة حرب معلنة. حالة الحرب لا تعني إعلان الاستنفار العام، ولا تعني خروج الجيوش إلى ميادين القتال، ولا تعني بدء الاشتباكات المسلحة. حالة الحرب قد تعني ذلك كله، لكنها تعني أولا، وقبل ذلك، أن المناخ أصبح مناخ حرب، وأن من لا يستعد للحرب يفقد نفسه. الاستعداد للحرب يبدأ سياسيا بقرارات سياسية. ويبدأ اقتصاديا بقرارات اقتصادية. ثم ينتهي عسكريا بقرارات عسكرية. والمدى الزمني لذلك قد يكون شهورا، وقد يكون سنوات، لكن طول المدة لا يلغي حالة الحرب ولا يتجاوزها. وكثيرا ما قال علماء الاستراتيجيا، الكبار منهم والصغار: إنه حين يكون طرفان في حالة حرب، ثم ينتهيان إلى ضرورة التفاوض، ثم يفشل هذا التفاوض ويتلاشى، فإن العودة إلى حالة الحرب هي الاستنتاج الطبيعي والمحتم. وهذا ما تعيشه المنطقة العربية الآن، وبوضوح أكثر من اللازم.

كلمة الحرب كبيرة.. لكن لها في واقعنا ترجمات عربية محددة. مثلا: القدس مدينة يهودية، وهي عاصمة إسرائيل الأبدية. الدولة الفلسطينية أصبحت شعارا من الماضي. المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية تحولت إلى عبء لا طائل منه. هذا كله على الصعيد الفلسطيني. أما على الصعيد العربي، فإن أقرب المعاني المباشرة فيه هي أن الأردن، بحسب المفهوم الصهيوني، هو الوطن البديل للفلسطينيين، وبما يعنيه ذلك من تهديد (أو تدمير) لدولة عربية مستقلة هي الأردن. وحين يكون مطروحا الآن إقامة علاقات متينة (من نوع خاص) بين الأردن ومجلس التعاون الخليجي، فإن حدوث أمر ما، تطور ما، هجرة ما، نحو الأردن.. فإن ذلك يعني بالضرورة أن نتائجها ستمس دول مجلس التعاون الخليجي. وهكذا يصل أول إرهاصات مناخ الحرب إلى الخليج العربي.

قبل سنوات، وبعد اتفاق أوسلو، انعقدت في مركز الدراسات الاستراتيجية في أبوظبي، ندوة فكرية سياسية، تدرس وتناقش أثر أوسلو على أمن الخليج ومستقبله. تحدث في الندوة أستاذ جامعي أميركي، وقال ما معناه: إن علاقات خاصة يجب أن تنشأ بين أقوى اقتصادين في المنطقة: اقتصاد إسرائيل واقتصاد دول الخليج العربي (دول النفط). وقال أيضا: هناك في المنطقة دولتان تتنافسان (لاحظوا كلمة تتنافسان)، لتلعبا دور الوسيط بين هذين الاقتصادين، هما: الأردن ومصر. والذي نعرفه الآن أن الأردن بكل أطيافه يرفض ويستنكر ويناضل ضد سياسة الوطن البديل. أما مصر فقد خرجت من إطار السياسة الأميركية، ولو جزئيا، وابتعدت عن «تليفون» تلقي الأوامر الأميركية، وبدأت تعمل لاستعادة مكانتها كدولة. دولة تملك تأثيرا استراتيجيا مباشرا على كل حدث عربي. وما فعلته خطابات أوباما ونتنياهو أنها أعادت مثل هذا النوع من التفكير الأميركي إلى ساحة العمل السياسي العربي؛ لذلك فإن أجواء الحرب، التي أشرنا إليها، ليست مقصورة على الفلسطينيين والإسرائيليين، بل هي ستعبر من الضفة الغربية إلى الأردن، ومن الأردن إلى الخليج العربي، ومن الخليج العربي إلى كل ما له علاقة بالنفط العربي وتداعياته وتأثيراته.

إن دخول إسرائيل إلى ميدان النفط العربي أمر خطير، وهو حلم صهيوني قديم ومتصل. ولنتذكر أنه عند اتفاق أوسلو مباشرة، كتب شيمعون بيريس، رئيس دولة إسرائيل الآن، كتابه الشهير بعنوان «الشرق الأوسط الجديد»، وقدم فيه صورة وردية عن الجنة التي ستولد عند أعتاب السلام الجديد، وعند مشاريع السلام الجديد، وقال بالحرف الواحد: «إن فرض دولار واحد على كل برميل نفط عربي من شأنه أن يؤمن الموارد اللازمة لبناء المشاريع التي ستصنع الجنة التي ستولد». لقد كشف بيريس عن التطلع الصهيوني إلى حصة له في النفط العربي. وسيبرز هذا التفكير من جديد في ظل التوازنات الدولية الجديدة، حين تصبح أكبر دولة عظمى في خدمة أصغر حليف لها، الحليف الذي هو أقل تكلفة من أي قاعدة عسكرية أميركية، كما قال مناحم بيغن للرئيس الأميركي في حينه.

لقد نشأ أمام أعيننا تناغم كامل بين إسرائيل والولايات المتحدة. ونشأ تناغم كامل بين إسرائيل والكونغرس الأميركي. ونشأ تناغم كامل بين الرئيس الأميركي و«أيباك» الصهيوني. وهذه تناغمات لها ما بعدها. ومهمة رجل الاستراتيجيا العربي، أينما كان موقعه، أن يدرس معنى هذه التناغمات، وأن يتخذ إزاءها ما يضمن مصالح بلده.. وإلا.