«الأب» تكلم بنعومة وحمل هراوة غليظة

TT

انتهت الستينات السورية بانحسار مفاجئ لعصر المؤامرة. خسر جميع اللاعبين: عبد الناصر. الحوراني. عفلق. البيطار. صلاح جديد. أمين الحافظ... طفا على السطح لاعب واحد. بانقلابه الهادئ (1970)، حسم حافظ الأسد اللعبة الدموية.

وهكذا، انتقلت سوريا من عصر المؤامرة، إلى عصر المناورة. في إتقانه لهاتين اللعبتين، حول الأسد سوريا من أداة وساحة للصراع في المنطقة، إلى لاعب يعترف الخصوم والأعداء، قبل الحلفاء، بدوره. ونفوذه. وتأثيره على مجرى الأحداث.

هل نجاح الأسد نتيجة للذكاء، أم هي فلتة حظ؟ شخصيا، لا أومن بدور القدرية (الحظ). حافظ الأسد نتاج مزيج كيمياوي من الذكاء والحظ. ذكاؤه وليد تجربته السياسية المريرة والمبكرة. وحظه الكبير راجع إلى قلة حظوظ خصومه وأعدائه، أو بالأحرى، إلى قلة ذكائهم، وسوء خياراتهم.

طَبَعَ الحذر المتحفظ ممارسة الأسد السياسية. حذره أَجَّلَ أحيانا مبادرته. في ظني، لولا إلحاح كبار ضباطه وشقيقه الأصغر (النقيب) رفعت، ربما لما قام حافظ بانقلابه. حتى بعد انقلابه، منعه حذره من تولي رئاسة الجمهورية فورا. بل أرسل عبد الحليم خدّام إلى الرئيس نور الدين الأتاسي، لإغرائه بالبقاء في منصبه، باعتباره من الأغلبية السنية.

هنا. لست أدري. هل تدخل سوء الحظ. أم قلة الذكاء؟! رفض الأتاسي العرض. التزم بولائه لصلاح جديد. وبمراهقة الحزب الماركسية. هنا أيضا، يظهر حزم الأسد الذي لا رحمة فيه: أرسل الثلاثي جديد. الأتاسي. يوسف زُعَيِّن (رئيس الحكومة) إلى سجن المزة. لم يفرج عنهم إلا بعدما أنهكهم المرض.

قضى جديد والأتاسي 23 سنة في السجن. وبقيت لهما من الحياة شهور قليلة. مات الرجلان معا في عام 1993. الأول بمرض عجز الكلى وهشاشة العظام. والثاني بسرطان المعدة والمريء (كان الأتاسي أكولا في سجنه. وفي حياته).

تولى الأسد رئاسة الحكومة. لم يتولَّ الرئاسة، بعد الانقلاب مباشرة. حَذَرُهُ علّمه حكمة الصبر في المناورة. انتظر الأسد رد فعل شارع الأغلبية (السنية). عندما تأكد من رد الفعل الترحيبي، تولى الرئاسة بالاستفتاء الشكلي. وليس بالانتخاب (1971). جدد لنفسه أربع مرات إضافية. مات في الخامسة (2000). حتى في موته، كان حذرا. أوصى بدفنه في قريته العلوية (القرداحة). وليس أبدا في دمشق الشام، خوفا على ضريحه الفخم من عوادي الأيام.

لماذا كان الأسد حذرا من السنة؟ شهر العسل في السلطة انتهى فجأة. لم يَدَع الجيل الإخواني الجديد الأسد ينعم بدفء «نصف نصر» في حرب 1973. قرأ إخوان الستينات سيد قطب. فاستغنوا عن مرونة قيادة (صديقي وأستاذي) عصام العطار. ثم اعترضوا على تنصيب علوي رئيسا لبلد سني. وأتبعوا التكفير بحملة اغتيالات طائفية تناولت الأطر الحكومية والطائفية للنظام.

لست مخطئا إذا قلت إن الإخوان الجهاديين لعبوا دورا في عدم اطمئنان حافظ الأسد إلى سنة لبنان وسوريا. فشل الأسد في ملاحقة الإخوان. لكن فشل الإخوان كان أكبر. أخفقوا في دفع السوريين إلى العصيان المدني الكفيل بإسقاط النظام. ثم تسببوا بمأساة في مدينة حماه ثلاث مرات!

حماه مدينة شديدة المحافظة. شديدة الكآبة بقبورها المرتفعة. وبنعيب نواعيرها الضخمة على نهر العاصي. التمرد الأول للإخوان في المدينة قضى عليه الفريق أمين الحافظ (1964). التمرد الثاني (1974/1975) قضى عليه الأسد. اختفى الشيخ مروان حديد قائد المتمردين في ظلمة السجن.

كان التمرد الثالث مجزرة هائلة. قاده الشيخ عدنان عقلة قائد (الطليعة المقاتلة). ارتكب الإخوان خطأ قاتلا. تحولوا من أشباح يعجز الأسد عن مطاردتها. اعتصموا بقلب المدينة القديمة. فتكوا بالأطر الحكومية والحزبية. فكان الانتقام منهم ومن أسر المدينة المحافظة رهيبا. وغير جائز في عرف كل الشرائع والقوانين.

أعاد الأسد بناء المدينة التي هدمها القصف الجوي والبري (قدرت الخسائر بين عشرة آلاف وثلاثين ألفا). لا أستطيع إعادة الرواية لضيق المجال. فقد سبق لي أن رويتها في «الشرق الأوسط» منذ سنوات بعيدة. أكتفي بالقول إن وحشية الانتقام تعود إلى جذور تاريخية، في الصراع بين أسر حماه الإقطاعية، وفلاحيهم العلويين الذين استولوا على الأرض في سهل الغاب الخصيب، من خلال قانون الإصلاح الزراعي.

لا أدافع عن الأسد. فهو المسؤول الأول. لكن أقول إن القادة العلويين للفرق العسكرية المدرعة هم الذين بادروا بالهجوم، قبل أن تصدر إليهم أوامر مكتوبة لشن الحملة. على أية حال، كان الأسد مأزوما. بدا الاعتصام الإخواني غير مناسب. وفي المكان غير المناسب. كانت قوات الأسد تخوض قتالا مع الإسرائيليين في سهل البقاع المجاور. ولعب صدّام دورا مخادعا. فقد وعد الإخوان المعتصمين بحماه، بوعد كاذب بإرسال فيالق مدرعة، عبر الصحراء (400 كيلومتر) لنجدتهم في المدينة، فيما كان الجيش العراقي يواجه هجوما إيرانيا معاكسا.

رَفْضُ السنة تنفيذ العصيان المدني شكل نوعا من الارتياح في نفس الأسد. تفرغ مع الدروز والشيعة في لبنان لشن حرب استنزاف ناجحة، أدت إلى انسحاب الأميركيين والفرنسيين، وانكفاء القوات الإسرائيلية إلى شريط حدودي ضيق في الجنوب.

هذه المواجهات الشرسة في الداخل والخارج كان لها تأثير كبير على صحة رجل يملك وحده صناعة القرار. طلب القلب إجازة راحة. فقد أصيب الأسد بنوبة قلبية حادة (خريف 1983). راح في غيبوبة طويلة. عندما أفاق منها في صحوة غير متوقعة، وجد نظامه متورطا في نزاع عائلي وطائفي شبيه بصراعات الستينات.

في حنكة المناورة. وفي حرفة الحذر والصبر والملاينة، بَدَّدَ الأسد الأزمة التي هددت نظامه وحكم الطائفة. رفع شقيقه رفعت (المشاغب) إلى منصب نائب الرئيس مع شريكين سنيين (خدّام وزهير مشارقة). وأعاد خصوم رفعت قادة الفرق المدرعة والقوات الخاصة إلى ثكناتهم (الجنرالات علي الشيخ حيدر. علي دوبا. شفيق فياض. علي حبيب) ومخافرهم. ثم سفَّر بالإكراه شقيقه وحيدر وفياض بطائرة إلى الخارج. عادوا أكثر انضباطا. فقد رفعت قوته (سرايا الدفاع). بل فقد الأمل بالوراثة.

هدأ الصراع. لكن لم ينته. سوف يتجدد في التسعينات. لا نهاية لمتاعب الأسد. كان عليه في لبنان أن يواجه «تمرد» الموارنة وعرفات العائد من تونس. أجبر الأسد الرئيس أمين الجميل على التخلي عن اتفاق الصلح مع إسرائيل، بعد التصفية الرهيبة لشقيقه الرئيس بشير. لم يكد الأسد يستريح من عناد الراحلين الشيخ بيار (والد الرئيسين) وحرتقات كميل شمعون، حتى واجه تمرد الجنرال ميشال عون. كان على الأسد أن يلتزم حرفته: فن الصبر إلى أن تحين فرصة الخلاص من الجنرال، في مقابل مشاركة قوات الأسد في إخراج صدّام من الكويت.

أما عرفات. فقد أُخرج من البقاع. ومن طرابلس بشمال لبنان. حوصرت قواته في مخيمات بيروت. تولت «أمل» نبيه بري التصفية الثانية لمخيم صبرا وشاتيلا (بعد التصفية الإسرائيلية الأولى). مات 2500 فلسطيني. وجرح خمسة آلاف. فر عرفات ثانية إلى تونس. انكفأت قواته إلى مخيمات الجنوب (عين الحلوة) التي لا يطالها السوريون.

في الثلاثاء المقبل. مع معركة التوريث في التسعينات. مع انتقال مشروع الوراثة من الأشقاء، إلى الأبناء. ماتت جمهورية باسل في حادث سيارة «سبور». عاشت جمهورية «الدكتور».