هل ستصل إلينا؟

TT

الدعم المعلن من قبل مجموعة الدول الثماني الأكبر في العالم لدول «ربيع العرب» يعني شيئين، لا أرى ثالثا لهما، الأول أن هناك مراهنة من جانب الدول الصناعية الحديثة على أن «الربيع» سوف ينتج زهورا ديمقراطية قد تشيع بروائحها الفواحة على الجوار، والثاني أن هذا الربيع سوف ينتج «سلاما دائما» في الشرق الأوسط، خاصة مع إسرائيل، بعد أن تسير الأمور في كل من ليبيا واليمن وسوريا، كما سارت في تونس ومصر!

هذا التوقع من الدول الغربية ليس بالضرورة صحيحا ونهائيا، وربما هو أقرب إلى التمنيات! فواقع الحال أن طرفي المعادلة لا يتسقان، هو إما أن تحدث ديمقراطية، بمعنى أن تطالب الشعوب بحقوقها، وهي حقوق داخلية وخارجية. وبالتالي لن تستطيع أي حكومة ممثلة للشعب أن تتغاضى عن المظالم التاريخية التي ألمت بالفلسطينيين في الجوار، وربما من الدوافع التي جعلت الشارع العربي «ينتفض» هذا التراخي العام تجاه القضية العربية الكبرى. من هنا فإن سلاما مع إسرائيل وبشروطها المعلنة لن يتحقق، أي أن سلاما باردا كما في السابق، لن يرضي الشارع العربي وحكوماته الديمقراطية المفترضة، أما بقاء السلام البارد على حاله فيحتاج إلى دعم ديكتاتورية جديدة بشكل ما، وبالتالي إغفال المراهنة على ديمقراطيات. ما أعنيه أن المراهنة الغربية التي تبدو مبنية على نقيضين لن تتحقق. لذلك فإنه في المدى المتوسط والبعيد نتائج الربيع العربي المؤملة قد لا تتحقق في ظل صلف إسرائيلي ودعم غربي لها، وإن تحقق جزء منها فعلى حساب الجزء الآخر، أما المراهنة على الجزأين فإنها تبدو محض خيال.

في المدى القصير لا فكاك من تأثر بقية العرب برياح «الربيع» إن صحت التسمية، وهو تأثر ثبت تاريخيا صحته، لا أحد قادرا - في المرحلة الحالية - أن يُنظر ما إذا كانت هذه الموجة من الرياح «الربيعية» سوف تكون عارمة، بمعنى أنها سوف تصل إلى كل مكان، أو أنها ستقف أمام حدود، إما إيديولوجية أو ثقافية.

منهجيا الدول العربية منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى على الأقل، شكلت سلسلة من التساند السياسي فيما بينها. فكل قضية كبرى أثرت بشكل أو بآخر في الدول العربية، صحيح أن هذا التأثير كان عميقا في أماكن وضعيفا في أماكن أخرى، إلا أن مبدأ التأثر كان قائما. خذ مثلا قضية فلسطين، الانقلابات العسكرية، حرب العراق وإيران، حرب تحرير الكويت، حتى ما حدث في أفغانستان، أثر كل ذلك بشكل أو بآخر في النسيج السياسي والاجتماعي في الدول العربية، فالموجات التي تحدثها كل هذه التغيرات وجدت لها ارتدادات مختلفة في العمق العربي.

إذن «ربيع العرب» لن يكون استثناء.

لعل التساؤل في بعض العواصم العربية، هو: هل تصل إلينا هذه الارتدادات؟ يستطيع المتابع أن يجيب بجواب فيه شيء من الراحة، يعتمد الوصول أو عدم الوصول على قوة وبناء المؤسسات في الدولة واحترامها، كلما كانت المؤسسات قوية وفاعلة، حتى لو كان التعامل معها صعبا، فإن رياح الربيع سوف يكون تأثيرها أقل من المتوقع، والعكس صحيح. فشل أو تجاوز المؤسسات، هو ما يجعل المواطنين يشعرون بالغربة في أوطانهم ويجعل الدولة حكرا على القلة، ليس فقط في الحصول على الموارد ولكن أيضا في رسم السياسات والتعامل اليومي، أي استخدام المواطن كأجير وليس كشريك.

حتى أقرب الصورة أكثر، هناك أمثلة من بلدين قد قضي الأمر فيهما، تونس ومصر، وعلى فترات تاريخية مختلفة، احتقرت فيهما المؤسسات فتراكمت الأزمات حتى الانفجار. في تونس حدثني أحد الأصدقاء العرب الذي خدم في تونس كسفير لبلاده بالآتي: ذات مرة أقام أحد الأثرياء التونسيين حفلا لزواج ابنه، وكان هذا الثري غير مقبول من بن علي شخصيا، فأصدر بن على أوامر للوزراء، أن لا يحضروا حفل الزواج، بعضهم لم تصل إليه التعليمات في الوقت المناسب، فحضر الزواج. في اليوم التالي أقال بن علي الحكومة، وأطاح بالوزراء الذين حضروا الزواج ليلة البارحة!! قصة لا تعقل أبدا، ولو قيلت لي بعد هروب بن علي لما صدقتها، ولكنني سمعتها قبل سنوات من ذلك التاريخ، ولم تغادر تلك الصورة النمطية مخيلتي قط. استهزاء بالمؤسسات إلى درجة «الحُقرة». هذا الاستهزاء يظهر بصورة أخرى، ففي عهد الرئيس جمال عبد الناصر يروي لنا السيد ثروت عكاشة في مذكراته - وهي منشورة لمن يرغب في الاطلاع عليها - أنه استدعي مرة إلى الرئاسة، وكان وزيرا للثقافة، فدخل على عبد الناصر والأخير يستمع إلى شريط يُنتقد فيه بشدة من قبل أحد الوزراء، فاستمر عكاشة في الاستماع، إلى أن انتهى الشريط، ثم سأل عبد الناصر: وما علاقتي أنا بذلك؟ رد عليه (والرد منشور في المذكرات): لقد فصلنا الوزير، ولكني أريدك أن تفصل يحيى حقي (مدير مصلحة الفنون التي يشرف عليها عكاشة) وهو أي حقي، كاتب متميز وصاحب الرواية المشهورة، «قنديل أم هاشم». سأل عكاشة: ولماذا أفصله؟ رد الرئيس - رحمه الله - كان موجودا في الجلسة ولم يقل شيئا!.

تاريخ الإدارة العربية السياسية المتكئ على الاستبداد، مليء بمثل هذه التصرفات التي تجمع بين الدولة وبين رأسها في صورة متطابقة، وبجمع مرضي، نتج عنه احتقار للمؤسسات بكل أشكالها، وتصبح كلمة المتنفذ، هي القانون وهي لائحة الاتهام والإدانة، أي تحويل المواطن إلى أجير، يستغنى عنه بمجرد شائعة أو تصرف لا يقبله الرئيس أو من حوله!

في مثل هذه الأجواء يتضخم التوتر الاجتماعي ويبحث عن مخرج له، أكان سويا أم غير ذلك. قد يتأخر انفجار التوتر الاجتماعي في غياب كلي أو جزئي لعمل المؤسسات، ولكنه في الغالب يأتي تحت ظروف وملابسات، منها أنه كلما تعمم تجاهل المؤسسات، ضاقت دائرة اتخاذ القرار، ثم انتهت إلى شخص واحد وحيد. انظروا كيف يحتقر رجل مثل القذافي عقول الناس، جميع الناس، بالادعاء بأنه لا يحكم، هو فقط القائد! وأمثلة أخرى تمتلئ بها الإدارة السياسية العربية وسرعان ما تشيع التوتر، الذي تحول - في وقت ما - إلى رفض.

آخر الكلام:

لماذا يتصرف الرجال الكبار في الغرب، كما تصرف دومينيك ستروس - كان، رئيس الصندوق الدولي والمرشح المحتمل لرئاسة فرنسا، فغازل خادمة فندق في نيويورك؟ تقول زوجته في مقابلة قديمة، إن زوجها يستحق حب النساء فهو «أرنب ساخن» a chaud lapin، إنها ثقافة مختلفة!!