ماذا نفعل مع الرئيس السابق؟

TT

المصريون حائرون بين «الثورة» وكل مقتضياتها من قلب بلد رأسا على عقب بالقوة والعنف إذا اقتضى الأمر، وبين أن يكون ذلك كله «سلميا» ووفقا للقواعد المتحضرة، والقانون. والمهمة هكذا ليست سهلة، لكن المصريين فعلوها في السابق، وانقلب النظام وخرج الملك، وهناك من يؤدي له التحية العسكرية، ويودعه، بينما المدفعية تطلق 21 طلقة، وينتظر النظام الجمهوري قرابة عام حتى يذهب النظام الملكي. لم تكن المهمة سهلة آنذاك، وهي ليست كذلك اليوم، وفي الأيام كثير من التفاصيل التي تجعل الحيرة جامعة حتى لا تعرف الثابت من المتغير.

لم يهرب الرئيس، كما فعل غيره، ولا سقط ميتا كما حدث مع آخرين من الملوك والرؤساء ساعة الغضب الكبرى. وحاول البعض الحل عن طريق اعتذار الرئيس مقابل العفو عنه حتى يجد الجميع مخرجا من مأزق لم يختره أحد؛ حيث كان هتاف الثوار: «ارحل»، يعني أن يترك الرئيس البلاد، وكان نقل الرئيس السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة يعني أنه لن يتركها أبدا حيا أو ميتا، وكان هذا هو ما قاله على أي حال.

وكنت خارج البلاد عندما ثارت قصة المبادلة بين قيام الرئيس السابق حسني مبارك بالاعتذار للشعب المصري وإعادة الأموال التي حصل عليها من دون وجه حق إلى الدولة مقابل العفو عنه وإطلاق سراحه. وعندما عدت وجدت أنني أشارك جميع القوى السياسية والإعلام والمظاهرات التي خرجت من الشعب المصري في رفضها لهذه المبادلة؛ لأنها تحاول الالتفاف على القانون والعدالة.. فالحقيقة أنني من المشفقين على القضاء في هذه المرحلة من ضغوط تأتي في صالح الرئيس السابق شفقة أو دفعا لفواتير سياسية أو اقتصادية سابقة، أو من ضغوط الرأي العام الذي عبأته أجهزة الإعلام بقوة وشراسة، على الرغم مما هو معروف من أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وأنه لا محاكمة إلا بقانون، ولا عقوبة إلا بنص.

القضية إذن هي العدالة والتطبيق الحرفي للقانون، دون ضغوط من هنا أو من هناك، وهو ما أثبت قضاء مصر أنه كان دائما، وفي أحلك الأوقات، الحصن الذي يحمي ويصون، وجرى ذلك في وقت الرئيس جمال عبد الناصر، كما جرى في عصر الرئيس السادات، ولم ينجُ منه حكم الرئيس حسني مبارك الذي اعترف أمام جمع بأن لديه مشكلة كبرى مع القضاء. وكانت هذه المشكلة معروفة للجميع، وهي أن القضاء المصري عرف دائما الاستقلال مهما كان الاستبداد طاغيا، أو كانت السلطة التنفيذية جامحة. الآن فإن القضاء يواجه الموقف نفسه، وهو مع القوات المسلحة والبيروقراطية المصرية، هم الذين ضمنوا استمرارية الدولة بينما تتهاوى سلطتها السياسية. والواجب أن يُترك القضاء لكي يؤدي عمله ويقيم العدل والميزان، وفقا للقوانين والقواعد واللوائح. وساعة حدوث ذلك، فإن الثورة المصرية سوف تكون قد أضافت إلى مآثرها، فهي لم تكن عنيفة وإنما كانت سلمية، وهي لم تُقِم المشانق وتعدم المسؤولين في السلطة، وإنما تركت للقضاء وسلطته المستقلة أن يقيما العدالة ويضمنا حقوق المتهمين بقدر ما يدافعان عن حقوق المجتمع.

على أي حال، كان هذا هو ما انتهى إليه الأمر، فلم يكن الرئيس على استعداد للاعتذار وطلب العفو عن جرائم يرى أنه لم يرتكبها، ولا كان الثوار على استعداد لوضع نهاية للثورة إذا ما وضعت نهاية لقصة من أطاحت به. لكن القانون أحيانا ما يعبر عن حيرة أخرى وجدتها عندما كنت في الولايات المتحدة مؤخرا وثار الخلاف الفرنسي - الأميركي حول حالة دومينيك ستروس كان، رئيس صندوق البنك الدولي، الذي تم القبض عليه في مطار جون كيندي بنيويورك، متهما باغتصاب سيدة في أحد فنادق المدينة. وقد جرت واقعة القبض بناء على مذكرة من النائب العام، وتم وضع القيد في معصم الرجل بينما عدسات التلفزيون لجميع المحطات الأميركية تسجل وتصور الرجل في طريقه من المطار إلى مكان التحقيق، بينما ضباط الشرطة يمسكون بذراعيه كما يحدث مع المجرمين كلهم.

الخلاف الفرنسي - الأميركي جرى فورا. لم يكن الخلاف حول حق السلطات الأميركية في القبض على رئيس صندوق النقد الدولي؛ فالقاعدة السائدة في الدولتين الديمقراطيتين أنه لا يوجد شخص فوق القانون وما دام توافر لدى المدعي العام ما يكفي من الدلائل لواقعة الاغتصاب، فإن من حقه إصدار الأمر بالقبض على الرجل. لكن الخلاف جاء حول تطبيق قاعدة أخرى لها قدسيتها في ميزان العدالة، هي أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وهو ما لن يتحقق إذا لم تجر وقائع التحقيق، حيث الاتهام والدفاع. هنا فإن طريقة القبض، ونشرها بين وسائل الإعلام، ووضع القيود في يد المتهم أمام عدسات التلفزيون، كانت من وجهة النظر الفرنسية إشهارا بالإدانة حتى قبل أن تبدأ العملية القانونية. وعند ظهور البراءة من الواقعة، فإن البريء فعلا حتى تثبت إدانته يكون قد تعرض هو وعائلته لضرر بالغ، بل إن مستقبله سوف يكون قد تم تدميره تدميرا، وهو ما جرى لدومينيك ستروس كان الذي كان عليه الاستقالة من منصبه فور ظهوره في وسائل الإعلام.

الأميركيون احتاروا في هذه النقطة كثيرا، خاصة أن الإثارة كانت كبيرة في واقعة جنسية، وسرعان ما بدأت بعض الشكوك حولها، حينما تبين أن الرجل لم يكن هاربا في المطار، بل إنه حجز تذكرته قبل وقت طويل، وأنه هو الذي أرشد الأمن إلى مكانه عندما طلب الفندق لكي يطلب إرسال تليفونه الجوال الذي تركه في حجرته. ما سوف ينتهي إليه الموقف متروك للعدالة وإجراءاتها، لكن النقاش الفرنسي - الأميركي حولها ربما يكون مفيدا للمهتمين بالقانون والعدالة. وإذا كانت هناك أي شبهة مقارنة مع أحداث مصرية كثيرة، بما فيها قصة الرئيس، فهي مجرد صدفة غير مقصودة، والأصل فيها أن تطبيق العدالة هو جزء من مضمونها، لكن تلك الحيرة في القانون كانت بين باريس وواشنطن وليست في عاصمة عربية أخرى.

النتيجة أن الأمر ملتبس في الأحوال كلها، وهناك في أيام الجمعة غضب يكفي المطالبة بالإعدام وليس غيره، ربما انتقاما لأرواح الشهداء، أو أنه للخلاص من خيرة باتت مستبدة بالثورة وواقفة أمام تطورها ونموها. صحيح أن قصة الرئيس ليست هي القصة الوحيدة، أو حتى الغالبة بين قصص الثورة والتغيير الكثيرة، لكنها لها مغزاها الخاص، وعند البعض فإن المغزى في إشفاء الغليل، وعند البعض الآخر حزن وحسرة على زمن كان يبدو على غير ما ظهر، لكن لا أحد يعرف ما إذا كان زمننا الآن حقيقيا هو الآخر!