حاكموهم

TT

يبدو أن الرئيس اليمني ما يزال يمارس الرقص مع الثعابين، برفضه التنحي عن السلطة وإصراره على المماطلة والمناورة، وتمادي نظامه في قتل المتظاهرين. وفي تقديري، أن الرئيس صالح، في أحسن الأحوال، فهم جهود الوساطة الخليجية خطأ، فهو قرأها على أنها مسعى لحمايته وليس لحماية البلد والشعب من مخاطر استمرار المواجهات الدموية. وفي أسوأ الافتراضات، فإن الرئيس صالح أراد المناورة واستغلال المبادرة لشق صفوف معارضيه وإضعاف الثورة لإنقاذ نظامه المتهالك.

ربما من هذا المنطلق، نسف الرئيس اليمني مقولة إن إعطاء حصانة من المحاكمة ربما يقنع الزعماء والمسؤولين الذين تواجه أنظمتهم انتفاضات وثورات شعبية، بالرحيل الآمن. ذلك أن بعض الزعماء قد يفهمون أنهم يستطيعون تجربة البقاء عن طريق القمع والقتل الممنهج للمتظاهرين، فإذا فشلوا بهذا الأسلوب، يستطيعون العودة إلى «مركب» الوساطة للخروج المحصن من الملاحقة والمحاكمة على جرائم القتل والفساد. لهذا السبب تحديدا يستطيع المرء تفهم حجة أولئك الذين يقولون إن أي جهد لاحتواء الأزمات يجب أن لا يتضمن حصانة من تحمل مسؤولية القتل أو الإفساد ونهب المال العام.. فوقتها سيعرف كل مسؤول يختار طريق القتل والترويع والإفساد أنه سيحاسب على أفعاله عاجلا أم آجلا.

فما معنى أن يكون الإنسان مسؤولا إذا لم يكن سيتحمل تبعات أعماله، وإذا بقي فهمه للمسؤولية هو التمتع فقط بامتيازات المنصب، من دون تحمل أي عواقب أمام الناس. إن المسؤولية الحقيقية هي أن يكون الإنسان مسؤولا عن عواقب أفعاله بمفهوم «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته». فإذا وضع الإنسان في موقع المسؤولية يجب أن يكون همه وهدفه هو خدمة الناس الذين ولي المسؤولية عليهم، وأن يكون مستعدا للمحاسبة إذا قصر أو تجاوز. أليس غريبا أن نسمع مثلا مسؤولين سابقين في نظام مبارك يتحدثون اليوم عن أنهم كانوا مجرد منفذين للأوامر والتعليمات، وبالتالي ليست عليهم مسؤولية في التجاوزات التي وقعت، وعن أعمال القتل التي حدثت خلال التصدي للمظاهرات؟ بعض هؤلاء كانوا وزراء، ورغم ذلك، فإنهم يرفضون الإقرار بأنهم كانوا في مواقع المسؤولية التي تحتم عليهم تحمل تبعات وجودهم في موقع السلطة.

القانون يعتبر التستر على الجريمة جرما يحاسب عليه المرء، فما بالك بمن يشترك في الجريمة، سواء بإصدار الأوامر لإطلاق الرصاص على المتظاهرين، أو بالضغط على الزناد لقتل متظاهر أعزل. فرجل الأمن الذي يطلق رصاصة قاتلة على رأس أو صدر متظاهر أعزل، لا يمكن أن يتبرأ من مسؤوليته في القتل.. فهو لم يطلق رصاصة في الهواء للتحذير، ولم يطلق رصاصة على الساق، بل صوب بندقيته على الرأس أو الصدر حتى تكون الإصابة قاتلة.. مثل هذا الشخص كيف لا يكون قاتلا؟

أثناء عمليات القمع التي صاحبت الثورات والانتفاضات العربية، كان هناك ضباط وجنود يرفضون تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، من منطلق أخلاقي يقوم على أساس أن الجيوش وأجهزة الأمن يجب أن لا توجه بنادقها نحو شعوبها.. هؤلاء قدموا نموذجا رائعا للفهم الذي يجب أن يسود. ولكي لا تضيع مواقفهم هباء، ولكي لا تهدر دماء الأبرياء بلا رادع مثلما نرى مع استمرار مشاهد القمع والقتل في اليمن وسوريا وليبيا، قد يكون مهما توثيق وحصر الجرائم التي ترتكب ضد المواطنين، بما في ذلك تحديد المسؤولين عن إصدار الأوامر بإطلاق النار، وكذلك تحديد من قاموا بتنفيذ أوامر القتل والتعذيب، بهدف محاسبة كل شخص على أفعاله.

إن الدعوات إلى الإصلاح، وإلى الديمقراطية، وحرية التعبير، واحترام حقوق الإنسان، لن تكون مكتملة إلا إذا كان هناك أيضا إصلاح للقضاء، وإعادة تأهيل لقوات الأمن، لكي يسود حكم القانون ويستعيد الناس ثقتهم في هذه المؤسسات التي يفترض أن تحمي المواطن والمجتمع. هناك حاجة ماسة إلى نشر ثقافة جديدة في أوساط أجهزة الأمن، بحيث تتخلص من مفاهيم التعدي على المواطن، والتجاوز على حقوقه، والتصرف خارج حدود وقيود القانون الذي يعلو على الجميع؛ مواطنين ومسؤولين، ويتساوى أمامه كل الناس بغض النظر عن مواقعهم أو وظائفهم.. فالعديد من الأنظمة العربية أقامت أجهزة الأمن ودربتها بمفهوم حماية النظام فقط، وليس حماية المواطن واحترام حقوقه. لذلك، رأينا استعدادا لقمع الناس ومصادرة حرياتهم، تمثل في عمليات التعذيب البشعة للمعتقلين في أقسام الشرطة وفي مباني الأمن، مثلما رأينا العنف المستخدم في التصدي للمتظاهرين العزل. والأدهى من ذلك، منظر الجيوش التي نزلت بأسلحتها لقمع المتظاهرين، ناسية أن مهمتها هي التصدي للعدو الخارجي، وليس توجيه أسلحتها نحو صدور شعوبها. لذلك لقي موقف الجيش المصري الذي رفض المشاركة في قمع المتظاهرين ترحيبا وتقديرا واسعين داخل مصر وخارجها، وهو التقدير ذاته الذي قابل به الناس مواقف الضباط والجنود الذين اختاروا، في اليمن وليبيا وسوريا، الانحياز إلى صفوف شعوبهم بدلا من تنفيذ أوامر القمع والقتل العشوائي للحفاظ على وجود أنظمة ترفض فهم رسالة شعوبها. فهذه الأنظمة لو كانت تفهم لاستوعبت الدرس المصري؛ إذ تبين أن عدد مجندي قوات الأمن التابعة لوزارة الداخلية المصرية بلغ مليونا ومائتي ألف عنصر، ورغم ذلك، فإن النظام سقط ولم يصمد أمام ثورة الشعب.

إن كل رئيس يقتل شعبه من أجل التشبث بكرسي الحكم، يجب أن يفهم أنه سيحاكم وسيحاسب على أفعاله. والأمر ذاته، ينطبق على كل مسؤول، بغض النظر عن درجته الوظيفية، يصدر أوامر بالتعذيب وبالقمع وبإطلاق الرصاص على المواطنين العزل.. لا يهم إن كان هذا المسؤول وزيرا أو مديرا أو رئيسا لقسم شرطة، أو حتى شرطيا عاديا، ما دام أنه اختار قتل المواطنين بدلا من حمايتهم.

[email protected]