هؤلاء أيضا صنعوا الثورة

TT

هي ثورات إذن التحمت بتراب المكان، لتنسج شتيلة الأمل من أوراق خريف تساقطت زمنا طويلا من سنوات الاستبداد والانتظار، ترنو إلى تحقيق مواطنتها، بعد أن تغذت طويلا على وعود الساسة، وبعد أن ربت الغرور والخلود في نفوس حكامها بتصفيقها الدائم وولائها القبلي وبتقبلها الرحب للظلم والقمع والاستبداد، لكون النسق الثقافي العربي العام كرس صورة الطاغية في فكرها، بشكل خلق نوعا من العمى الثقافي والسياسي لديها، هي ثورات صنعها أفراد بلا إيديولوجيات ولا زعامات سياسية أو ثقافية أو إعلامية، كانت أكثر خفة في تونس لخفة سنوات الاستبداد، وأكثر دموية في ليبيا لطول سنوات السلطة، فأضحت السلطة الليبية نرجسية وحالة مرضية استبدت بالحاكم بشكل يستعصي معه العلاج.

لكن يخطئ من يظن أن هذه الثورات الفردية هي وليدة فراغ أو خواء فكري وروحي، أو أنها ابنة شرعية للغابة الافتراضية فقط، هي ثورات رضعت من ثدي مواقف وحالات وأعمال ومشاهد لفنانين ومبدعين وإعلاميين وكتاب ومثقفين أصحاب مواقف وقيم سامية، هي ثورات تربت على صدى صراخ المعتقلات والسجون والمنفى لأبناء حاربوا القمع لكنهم لم يجدوا سوى القمع والتنكيل، هي ثورات ترعرعت على صوت نشرات أخبار يومية بمشاهد دموية مقززة لشهداء فلسطينيين وعراقيين... يجعلوننا نبكي بدل الدمع دما، هي ثورات ارتشفت من رحيق أشعار أحمد فؤاد نجم وأغاني الشيخ إمام وأشعار مظفر النواب ومحمود درويش ومحمد الماغوط وحسب الشيخ جعفر..، وتفتح وعيها ومداركها على أفكار متنورة لمحمد عابد الجابري وغالي شكري وبرهان غليون وجورج طرابشي ومحمد سبيلا...، هم أبناء تسريبات ويكيليكسية نشرت غسيلنا على حبال العالم، وكشفت عن شلال من التصريحات والتقييمات السرية المتخفية في كواليس العسكر والدوائر الأمنية الأميركية، كشفت أسرار الساسة والحكام العرب، هم خلاصة أفكار ومواقف وحالات وتسريبات صنعت الثورة وشكلت وعيها وضميرها الجمعي وشذبت أفكارها، هي ثورات لطالما انفعلت بأفلام عربية «إحنا بتوع الأتوبيس» لعادل إمام، و«عمارة يعقوبيان»، و«حين ميسرة» لخالد يوسف.. لفنانين كانوا دائما أصحاب موقف ووعي سياسي والتزام فني راق، هم أبناء أعمال إبداعية صودرت ومنعت، لكنها قرئت خلسة في الجامعات والمؤسسات وبعيدا عن أعين الرقابة، أعمال تناولت استبداد الحاكم بشكل مجازي أحيانا ومباشر أحيانا أخرى، هم أبناء برامج إعلامية صادمة متنورة لإعلاميين لا يخشون في الحق لومة لائم كـ«قلم رصاص» لحمدي قنديل..، هم أبناء قنوات أكثر تفتحا وتحررا ومهنية في كشفها عن الاختلالات الفكرية والسياسية والاقتصادية وبذاءات الساسة كقناة «الجزيرة» مثلا، القناة التي رافقت الثورة في عز ألقها واشتعالها لنقل الحدث، هم أبناء أعمدة حرة نزيهة لا تعرف المحاباة ولا المجاملة، كعمود الصحافي المغربي رشيد نيني «شوف تشوف» في جريدة «المساء» المغربية، الذي أحبه كل المغاربة وحظي بدعمهم وتضامنهم وخاصة في الآونة الأخيرة بعد الزج به في السجن على خلفية مقالات نشرت تستهدف «المساس بأمن وسلامة المواطنين» على حد قول النيابة العامة، هم أبناء مواقف ملتزمة وجريئة، كموقف خوان غويتيصولو الذي رفض جائزة القذافي العالمية للآداب سنة 2009، قائلا: «كيف يمكنني أن أقبل بهذه الجائزة من شخص تولى السلطة عن طريق انقلاب عسكري سنة 1969؟ هذا مستحيل تماما»، هم أبناء أفكار لمثقفين وأدباء رفضوا بأنفة وعزة وكبرياء الانسحاق تحت سطوة الأيديولوجيا والتحول لبوق ودعاية للسلطة، اكتفوا بالصمت والنفي، لم تهمهم يوما المراكز السياسية والاجتماعية المرموقة ولا الانضواء في تكتلات وأحلاف وهمية ولم تصنعهم أبواق الإعلام، لم يكرسوا يوما صورة الطاغية، ولم يساهموا في نحت تماثيل الحكام في الشوارع كفزاعات لكل مواطن تهفو نفسه للحرية والعدالة. هؤلاء هم أيضا صنعوا الثورة بتؤدة وهدوء، ونحلم بمعانقة أعمالهم بعشق ومتعة، وليس هؤلاء الذين يتسلقون اليوم على أكتاف الثورة كي يصنعوا مجدهم الواهي، يتلونون ويرطنون حسب الظروف والأحوال، يهرولون لكتابة القصائد وإنتاج أفلام وأغان وبرامج عن الثورة، يجردونها من بعدها التاريخي والإنساني، ويحولونها لموضة العصر ولظاهرة يتجندون لاستغلالها أسوأ استغلال، ناسين أن صناع الثورة هم شباب لن تنطلي عليهم الخديعة، هم اليوم أكثر توجسا وحذرا من ذي قبل.

وبما أن الثورة أفرجت عن صرخة مكتومة من سجن التاريخ، فآن الأوان لمثقفينا المنفيين والسياسيين أن يعودوا لأوطانهم من منفى المكان والصمت معا، ليصنعوا الحاضر والمستقبل بأفكارهم وطروحاتهم الجريئة التي عودونا عليها دائما، وأستحضر هنا روح الدكتور الراحل السوري أمجد الطرابلسي، الذي عاش حياة المنفى في المغرب وعلم جيل ما بعد الاستقلال في كلية الآداب بفاس والرباط، ورحل وفي حلقه غصة الوطن، آن الأوان لعودة المنفيين التونسيين وأغلبهم نشطاء حقوقيون وسياسيون وصحافيون، آن الأوان لأعمال إبداعية صودرت ومنعت أن تطفو على سطح مشهدنا الثقافي العربي، ولأفلام منعت أن يفرج عنها من سجن المنع، كآخر أفلام يوسف شاهين وخالد يوسف «هي فوضى»، وفيلم «البريء» للمخرج عاطف الطيب، وفيلم «الجوع» لعلي بدرخان..

في المغرب عرفنا حالة انفراج سياسي مبكرة، بعد تشكيل حكومة التناوب سنة 1998 الذي عد حدثا تاريخيا في ذلك الوقت، حيث علقت آمالا كبيرة على العديد من الوزراء الذين قضوا عهدا طويلا في المعارضة قبل أن يتسلموا زمام الحكومة بالمغرب، كما توجت هذه الإصلاحات بعودة المعارض السياسي اليهودي المغربي إبراهام السرفاتي إلى المغرب بعد رفضه الهجرة إلى إسرائيل، حيث سمح له الملك محمد السادس بالاستقرار من جديد بالمغرب في سبتمبر (أيلول) 1999 بعد ما كان معارضا لنظام الملك المغربي الراحل الحسن الثاني، كما تم تداول بعض الكتب الممنوعة، ككتاب «الخبز الحافي» لمحمد شكري سنة 2000 بعد 28 سنة من صدوره، وكذا رواية «كان وأخواتها» لعبد القادر الشاوي التي رفع عنها المنع الذي طالها على امتداد سنوات خلت منذ صدورها في بداية الثمانينات.. وانتعشت آداب وأفلام السجون، خاصة بعد فتح أبواب المعتقلات والسجون السرية، وبعد تأسيس «هيئة الإنصاف والمصالحة» للمصالحة مع الماضي السياسي المؤلم، بدءا بفيلم «منى صابر» للمخرج عبد الحي العراقي سنة 2000 و«الغرفة السوداء» لحسن بنجلون و«جوهرة بنت الحبس» لسعد الشرايبي، ورواية «العريس» لصلاح الوديع، ورواية «تازمامارت» لأحمد المرزوقي، «تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم: مذكرات محمد الرايس»..

فثورات تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا إذن، انبجست في الساحات العربية بتلقائية وعفوية، لم يؤطرها لا المثقف ولا السياسي أو الإعلامي والفنان والكاتب في أوج اشتعالها، لكنه أطرها بأفكاره والتماعاته ومواقفه الراقية والجادة بهدوء طيلة سنوات الاستبداد المنصرمة، رافق الثورة منذ كانت بذرة في نفوس المواطنين، رعاها وشذبها وسقاها حتى كبرت واستقامت كشجرة يافعة يانعة في ساحات الثورات تؤتي أكلها في كل حين وتتفيأ ظلالها كل الأجيال القادمة.

* كاتبة من المغرب