«ميدان التحريض»!

TT

لا يزال الحراك المصري الكبير الذي تلا أحداث الخامس والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني) الماضي يستولي على عناوين الأخبار وتبعاتها بشكل واضح، وخصوصا في ما يتعلق بالاتجاهات العامة التي تحاول أن تحتل الخط السياسي للبلاد ما بين الديني والمدني، وذلك بتفرعات هذين الخطين وما فيهما من ألوان مختلفة. والأمثلة الكبرى لم تحسم نفسها، فهي تحاول رسم حدود لحريات الرأي وحرية الكلمة وعمق المحاسبة ومعرفة السؤال الأهم والإجابة عنه: الأمن والاستقرار أولا أم المحاسبة والعدالة أولا؟ وحتى يتم الإجابة عن هذا السؤال المحوري الكبير يبقى التجاذب والتناحر الذي يهز المشهد الكبير والجميل.

في المشهد القرآني العظيم بـ«سورة يوسف» ورحابها العطرة يوضح لنا الحق عز وجل أنه على الرغم من أن المجتمع في مصر وقتها لم يكن ملتزما أخلاقيا بالمعنى المثالي والمطلوب، فإنه كان حتما مجتمع عدل وقانون بامتياز، وليس أدل على هذا المعنى، ولا أهم منه، من أنه لم يتم البطش والظلم من قبل العزيز في حق يوسف لمجرد الشك والقيل والقال والنميمة وسوء الظن، ولكنه أقدم على الاطلاع على الأدلة والقرائن وتحليلها بموضوعية وسوية، وبعدها بنى موقفه ومن ثم اتخذ قراره النهائي، ولهذا كانت مصر وقتها مضربا للمثل في الحكم السوي. وهو يؤكد المقولة الهامة التي تنسب إلى الإمامين الجليلين «أبو حنيفة النعمان» و«ابن تيمية»: «إن الله لينصر الأمة الكافرة العادلة على الأمة المؤمنة الظالمة». وبالتالي فالعدل هو أساس المحاسبة وليس الانتقام. والمنظومة العدلية لها معايير هي أبعد من مبدأ الانتقام والتشفي، فالعدل العام أهم من العدل الخاص ولا شك، وما يحقق السوية والاجتماع الصالح العام الكبير يجب السعي إليه مهما كان غير مرغوب فيه جماهيريا ولا يجلب الشعبية والهتافات المؤيدة والمباركة لذلك. نعم، هناك أرضيات خصبة للمؤامرة ترحب بها لدى البعض، والأخطر من نظرية المؤامرة هو القابلية للمؤامرة، التي يتكيف معها كل محرض ومستفيد من الفوضى والقلق والخوف، وما أكثرهم.

ميدان التحرير تحول إلى ساحة تحريض واقتتال فكري وتصفية حسابات كبيرة. نجاح المثال المصري مطلوب لسوية مصر ولأهمية حجم مصر ووزنها وثقل تأثيرها على المحيط العام. حتى الإعلام المصري «يعاني» من تبعات الثورة ويتحسس مكانه لمعرفة موقعه وليدرك ما هو ممنوع وما هو مسموح، ورموز إعلامية كثيرة حُرقت أسماؤها وأخرى برزت وصعدت لتثبت جدارتها أمام المشاهدين والقراء، ولكن الإعلام الإلكتروني يبقى هو الأكثر تأثيرا، وخصوصا أن الذين يتابعونه هم الأكبر عددا في الشرق الأوسط بحسب الإحصائيات المعتمدة. ولكن المسألة تتعلق بمعرفة السؤال الذي يتبادر إلى أذهان المصريين: ما هو ثمن الأمن، وما هي تكلفة الحرية؟

اليوم تبدو مسألة الأمن والاستقرار هي الأهم والأخطر، وان سياسة التحريض أظهرت مخاطرها الكبرى وهواجسها الهائلة، وهي هموم لن يستطيع المصري التعايش معها، والخوف أن تظهر بوادر ثورات متتالية وراءها!

[email protected]