الغربوفوبيا

TT

أنفر بطبعي من العبارات الوحشية وأكره الاشتقاقات الغريبة وكذا الأخيرة التي تقال قصد الإثارة أو يرسل بها قصد التفرد. وما أحسب أن حديثي اليوم عن الغربوفولوجيا (هذا التركيب المزجي بين الغرب والفوبيا) تدرج في عداد الإثارة وطلب الغرابة أو البحث عن التأمن في اللفظ وافتعال الظرف.

ثم إنني أريد توجيه عناية القارئ الكريم إلى أمور ثلاثة صغيرة أقدمها على سبيل التنبيه فيما يتعلق بشخصي المتواضع. الأمر الأول أنني، عربيا ومسلما وإنسانا، أجد أن الغرب قد أساء إساءة بالغة إلى دول وأقوام عديدة (نحن بالطبع في عدادها) فكانت الإساءة بالاستعمار، في صورته الكلاسيكية منذ القرن التاسع عشر، ثم كانت الإساءة، ولا تزال، في مظاهر كثيرة أخصها الاندفاع الذي تبين عنه الولايات المتحدة في الدفاع عن إسرائيل وحماية عدوانها حماية لا تعرف حدودا تقف عندها. الأمر الثاني أرى أن النفور من الغرب، عند أقوام عديدة، هو من قبيل ردود الفعل الطبيعية على نفور وإساءة كان الغرب فيها، في أجزاء منه، هو البادئ. والأمر الثالث أنني أستحضر، ما استطعت، مثال الثقافة العربية الإسلامية في بهائها وقد كانت إقبالا على الغير المخالف ومحاورة له، مثلما أنني أجعل نصب عيني الخطاب القرآني وقد قرر أن الناس ليسوا أمة واحدة وأن الاختلاف ملازم للبشر. غير أن الدعوة إلى «الكلمة السواء» من جانب والتقرير الإلهي بأننا خلقنا شعوبا وقبائل من أجل التعارف.. كل هذه الأمور تجعل من النفور من الآخر والخوف المرضي منه حالة مرضية ومرفوضا.

غير أنني، مع ما أسلفت من تذكير، أجد أن عالمنا العربي الإسلامي اليوم أكثر من الأمس، بل واليوم أسوأ مما كان عليه الحال في عصر النهضة، برزت في مراحل التحرر الوطني بعدها، مظاهر من «فوبيا الغرب»، مظاهر من السلوك والموقف غير السويين من الغرب حضارة ووجودا (متى صح أو جاز الفصل بينهما). قبل بضعة أسابيع كتبت في هذا المنبر عن «الإسلاموفوبيا»، وإذ كنت قد تشرفت بالمشاركة في جنادرية هذه السنة، وكانت الجنادرية قد جعلت من «الإسلاموفوبيا» إحدى الندوات الكبرى، فإنني أجد أن الحوار في الندوة من جانب، وملاحظة ما يحيط بنا من آراء شاذة من جانب آخر، وأمور أخرى أقل أهمية، وإن كان لها وجود وتأثير. كل هذا يقودني اليوم للحديث عن «الغربوفوبيا». لعل هذه الأخيرة هي الصورة السالبة أو المعكوسة للإسلاموفوبيا، وللأمر في هذه الحالة مبرراته المنطقية، لكن «الغربوفوبيا» ظاهرة مستقلة وحال تستدعي القول فيها.

نعلم أن الفوبيا (= الخوف المرضي ذا السبب الغامض أو المصدر المجهول) تتجلى في أنماط السلوك، كما أنها تتصف بملازمة جملة قليلة أو كثيرة من الأوهام. وإذا كانت أحوال الفوبيا المختلفة (الألطوفوبيا أو الخوف من الأماكن المرتفعة - الكلوستروفوبيا أو الخوف من الأماكن المغلقة - الإسلاموفوبيا أو الخوف المرضي من الإسلام) تقتضي علاجا طويلا أحد مستلزماته الكشف عن الأوهام ووعيها من حيث أنها كذلك.. فإن الغربوفوبيا، أو الخوف المرضي من الغرب يستلزم تبين أوهام نقف عند أكثرها قوة وأشدها قسوة وفتكا بالعلم.

الوهم الأول يقوم في اعتبار الغرب كلا واحدا منسجما، كتلة واحدة أشبه ما تكون بكتلة جبل المرمر أو الجبل الواحد، والحق أن خطاب الغرب عن ذاته، عند بعض مفكريه، يدفع بهذا المفهوم جهة الترسيخ والنفاذ إلى الأعماق. قد يكفي أن يقرأ المرء جملة الآراء التي جعلها المفكر الأميركي صامويل هانتنغتون لكتابه الشهير «صدام الحضارات». من ذلك قوله إن الحضارات الكبرى في العالم اليوم (وهي عنده خمس: الغرب، الإسلام، اليابان، الصين، الهند) تقبل القسمة الثنائية: فهناك، والعبارة له: «الغرب وباقي العالم». وهناك (والعبارة له أيضا): «كيفية واحدة حتى يكون المرء غربيا وكيفيات شتى حتى لا يكون غربيا». وإذن فإن النقيض والمضاد للغرب هو باقي العالم غير الغربي. والوهم الأكبر الذي يقع فيه هانتنغتون وشيعته من المحافظين الجدد، في أميركا خاصة، هو أن الغرب ليس واحدا ولا منسجما.

ذاك هو الوهم الثاني فقط، وهو الوهم الذي نجد ضحاياه من المعانقين للقسمة الثنائية النقيض، تلك التي تقتضي بقسمة العالم إلى جاهلية وإسلام (فسطاط الإسلام / فسطاط الكفر). كل ما لم يكن «إسلاما» (كما يمثل الإسلام في وهم دعاة الغلو ومناصري الإرهاب وقد جعل من الدين الإسلامي ذريعة للقتل والجريمة العالميين) فهو «جاهلية». والصورة المثلى للجاهلية عند أرباب هذا الزعم هي: «الغرب». يغدو الغرب مرفوضا وغير مقبول لأنه يوقع في الرذيلة والفساد. «الخوف من الغرب» خوف من الوقوع في شرك الجنسية المثلية، وزنى المحارم، والاستهتار بالأخلاق وفساد الذمم وانتصار الشيطان. كذا يغدو الغرب مرادفا للشيطان إن لم يكن هو الشيطان ذاته.

الوهم الثالث هو العمى عن رؤية «الغرب الآخر» ذاك الذي هو مرادف للعقل والعقلانية، والنظام، والصناعة، وحب العمل، وسيادة القانون، والفصل بين السلطات الثلاث وتداول السلطة التنفيذية مع القدرة على مراقبتها والوقوف في وجه شططها والإيمان بحقوق الإنسان. إنه «الغرب الآخر» الذي وجدنا الشيخ محمد عبده يشيد به إشادته الشهيرة إذ رأى احتراما للإنسان وللقانون وللمبادئ العليا، وتقديرا لقيمة العلم وقوة العمل فقال، ما معناه، إن ما نقول إنه الإسلام هو ما عليه هؤلاء القوم.

أحسب أننا في المرحلة الثقافية التي نعيشها اليوم، مرحلة تحمل على إعادة النظر في الموجودات وفي القيم، مرحلة مساءلة ذاتنا الحضارية أحوج ما تكون من البرء من أوهام مماثلة وإلى طلب الشفاء من مرض إن لم يكن قد حل بنا فهو لا شك يتهددنا.

شبح «الغربوفوبيا» يحيط بنا مثلما أن ردود فعل «الإسلاموفوبيا» تلحق بنا الأضرار فتجعلنا عرضة للسهام وهدفا لحروب من كل صنف.