«الأستاذ الإمام»

TT

كان للشيخ محمد عبده مناقب ومواهب كثيرة وكبيرة: الخلق والعلم والرؤية والسماح والصبر والشجاعة والتقى والمعارف. كل هذه كانت ميزات كبرى، تفوق بها الإمام، واتفق عليها معاصروه وعارفوه ومن أعقب جيله، وأجمعوا عليها. لكن قراءة محمد عبده والقراءة عنه، وكثرة ما وضع من سير عنه، وعن مرحلته، وعن منفاه، ألهتنا عن «أعظم»، وليس عن «أكبر» ما كان عليه.

لم يكن رجل علم وفكر وتنوير، بل كان رجل خير وترفق ورحمة. لم يتقدم الشيخ أهل العلم ولم يدّع منازعتهم ولا حاول منافستهم في مرتبة أو بلوغ. لكنه تقدم أهل البر، مضارعا المحسنين، مضاربا العطائين. يقول السادة الأساتذة المعلمون، عباس محمود العقاد، إنه لما عجزت حكومة مصر عن إسعاف منكوبي حملة السودان من أرامل وأيتام ومصابين وفقراء ومعوقين، بادر القاضي الاستئنافي يومها محمد عبده إلى تنظيم الحملة الكبرى من أجلهم. ويقول العلامون العقاد إنه لما احترقت عام 1902 بلدة ميت غمر، بلغ عدد المنكوبين أكثر من خمسة آلاف، فمضى «الأستاذ الإمام» يجمع المساعدات، بل ويستكتب الشعراء من أجل إغاثة ضحايا الكارثة، ومنهم شاعره حافظ إبراهيم الذي نظم في الدعوة قصيدة مطلعها: سائلوا الليل عنهم والنهارا/ كيف باتت نساؤهم والعذارى.

مضى «الأستاذ الإمام» يؤسس الجمعيات الخيرية التي استمرت من بعده. وكانت الناس تثق في خلقه وبره فتقاسمه ما عندها. ولست أدري – مع الاعتذار عن الجهل – إن كان الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) قد قال لأحد غير الصحابي معاذ بن جبل (رضي الله عنه) «والله إني لأحبك» عندما أخبر أن هذا الحبيب يوزع الصدقات سرا وينسى أن يبقي ما يقيت.

الإمامة هي العبادة بالسهر على العبّاد. لم أسمع أصدق وأبسط من قول الملك عبد الله بن عبد العزيز، إنه لا ينام إلا وقد اطمأن على كل منطقة في البلاد. لقد صار الملك هنا في مرتبة أرفع من التاج، فالصولجان في الخدمة لا في الحكم. والسلطة محبة، ومشاركة، وعلاقة مباشرة مع الذين أولوك ثقتهم وبايعوك أن تعدل، وعاملوك أبا لا حاكما.

يبدو مثل هذا القول منا، الذين لسنا في النسب ولا في الانتساب، تملقا، ولو أن الرجل انحنى له باراك أوباما. لكنه كالتملق لجميع الذين أموا الناس في التواضع للناس، وكالتزلف للذين لا يفيضون إلا خيرا ودعة وطيبة وصدقا، لا مثيل له في هذا العالم.