القانون ليس آلة موسيقية فقط!

TT

وسط تلاطم موجات الأحداث المتلاحقة نتاج هدير ثورات الربيع العربي الكبير، الذي خرج من رحمه صدى مطالبات الحرية والكرامة التي طال انتظارها وطال الشوق إليها، هناك حديث مهم عن موقع الاستفادة المباشر مما يحدث، وأين سيستشعر المواطن العربي الفائدة المرجوة من تبعات ما يحصل ويتطور، وهو سؤال جد مشروع ومهم ولافت.

ويبدو أن الجواب المباشر عنه هو الانعكاس الأهم لما يحدث اليوم سوف يكون على القانون. القانون.. تلك الكلمة المهمة التي كانت بعض الأنظمة تتغنى بوجودها دوما وترفع شعارات مضحكة لأجل الاجترار السياسي والاستغلال الإعلامي بأن سلطة القانون فوق كل اعتبار، وطبعا كان القانون (المسكين) ممسحة و«خرقة» يتم بها مسح الخطايا وتبرير الكوارث.. ويستخدم لغايات ومآرب حولته إلى أضحوكة مخجلة ومحزنة ومعيبة، مما جعل القضاء والعدالة والمحاماة مفردات لا قيمة لها ولا معنى لها، شعارات ومفردات مبهمة ورمادية ومطاطة.

اليوم هناك اتجاه شعبي عام لتفعيل النظام والقانون وتطبيقه بجدارة، لكن بسوية وعدالة من دون اختيار وانتقائية مبنية على المصالح والمنافع والتفرقة والتمييز. القانون الذي كان يعرفه الناس إما أنه آلة موسيقية شرقية قديمة وإما أنه مادة تدرس في الجامعات وإما أنه مجموعة أنظمة على الورق لا قيمة لها.. يبدو أنه مقبل على نقلة نوعية؛ لأنه اليوم يأتي وليد غضبة كبرى، غضبة جاءت بعد سنوات من الانتظار.

هناك «افتراض» منطقي جديد أن سن القوانين الجديدة يكون نابعا من الصالح العام، وتطبيقه لا بد أن يعكس هذا الصالح العام، ومعايير قياسه هي رضا الناس وإيمانهم وقناعتهم بأن ذلك حاصل على أرض الواقع. ولأن بعض البرلمانات العربية فقدت مصداقيتها ومكانتها في أعين مواطنيها الذين علقوا عليها آمالا هائلة وبنوا معها طموحات كبيرة ظنا منهم أنها سوف تكون صوتهم الحقيقي وأداة لسن وتشريع ما فيه الصالح العام، ليكتشفوا مع مرور الوقت أنها تحولت إلى أداة نافذة لتمكين الاستبداد ولتشغل نفسها بمعارك هامشية وجدل بيزنطي عقيم عن مسائل ليست هي «لب الموضوع» والهم الأكبر للناس. ولعل المستفيد الأكبر مما يحدث هو أن علاقة جديدة ستبنى بين الحاكم والمحكوم أساسها سوية القانون، قانون بعبارات واضحة وصريحة لا مجال فيها للتفسيرات «المضحكة والمبكية» التي تستخدم لليِّ أعناق النصوص وتطويعها بشكل فج وصارخ لتحقيق المكاسب وحماية الأشخاص النافذين ومن هم محسوبون عليهم من الأتباع والأنصار.. مؤسسة القانون في الدولة هي الميثاق الغليظ الذي يؤسس للعهد الاجتماعي بين الشعب ومؤسسة الحكم حتى يتم الابتعاد عن الهوى الشخصي والمزاجية العالية في التعاطي مع الأمور فتكون «الشخصنة» هي سيدة الموقف بدلا من العدالة.

نعم.. هذا طرح مثالي، كما يبدو، لكن ليس ببعيد عن الواقع، فسويسرا وسنغافورة والسويد وكندا ليست كيانات تحيا في مجرات أو كواكب بعيدة، لكنها دول يعيش فيها بشر قاموا بنص قوانين عن طريق برلمانات وراقبوا أساليب أدائها وطرق تطبيقها وبقيت في أطوار مستمرة للتنمية وتدارك الخطأ وتحسين المسائل.

إنفاذ القانون وإعادة الهيبة له يجب أن يكونا الثمرة الكبرى والمكسب الحقيقي من الحراك العظيم الحاصل الآن. قانون يمس حرية الرأي ويكفلها ويضمن التعامل مع المفسد ومعاقبته ويؤمن كرامة المواطن ويحميها.. بغير ذلك سيكون كل ما يحصل فوضى وعبثا وتسالي ومضيعة للوقت. أراهن على أن الربيع قد أتى وما كان لن يعود كما كان.

[email protected]