هل ستذهب الثورة في غمضة عين؟

TT

ليس في مصر حالة اضطراب أمني، بل الأكثر منها هو ذلك الاضطراب الفكري، والنرجسية التي لا ترى إلا تحت أقدامها، فلا يوجد نقاش جاد حول المستقبل القريب ولو لثلاث سنوات قادمة. فقط مصر غارقة في أيها أولا الانتخابات الرئاسية أم البرلمانية أم كتابة الدستور، ومن سيكون الرئيس هل هو عمرو موسى أو محمد البرادعي أو مرشح الإخوان؟ كنت بالأمس في جلسة قاهرية مع بعض الأصدقاء، وطرحت أمامهم بعض السيناريوهات العادية التي يقوم بها أي طالب دراسات علوم سياسية لتقييم وضع أي دولة، فبرقت أعينهم وكأنني أتكلم عن أشياء جديدة.

قلت لأصدقائي هل تعلمون أن مصير الديمقراطية في مصر مرهون بتصرفات بنجامين نتنياهو أو مصيرها في يده؟ فشهقت سيدة كانت إلى جواري وقالت «يا نهار أبيض، كيف». قلت لو أن الجيش الإسرائيلي قام بأي تحرك يوحي بأنه حالة تأهب واستعداد تجاه الحدود مع مصر، فإن المشير طنطاوي سيصدر أوامر مماثلة للجيش المصري، وأعلن حالة الطوارئ، وبدلا من أن يدير المجلس العسكري قضايا التحول نحو الديمقراطية من انتخابات برلمانية ورئاسية، ستنزل الستارة وتظلم الدنيا ونعود إلى عهود الديكتاتورية باسم مواجهة إسرائيل، وسيكون أيضا «الجيش والشعب إيد واحدة» في مواجهة العدو وتدخل مصر عصر حكم العسكر مرة أخرى ومن أوسع أبوابة ويسلم الشعب حريته للجيش مرة أخرى، كل هذا يحدث بحركة واحدة من نتنياهو لو أراد.

ولا ندري كيف يفكر نتنياهو وجماعته. هذا هو السيناريو الأسوأ وربما الأقل حدوثا، ولكنه سيناريو لم يتناقش حوله المصريون من الثوار أو غير الثوار. فهل يعقل أن مجتمعا يدعي ملكيته لعقول فذة لا يناقش بديهيات سيناريوهات المستقبل؟ فقط احتفاليات، ومحاضرة للدكتور فلان وعلان ودورهما في الثورة وبناء المستقبل. و«مين حياخد وظيفة إيه فين؟».

سيناريو آخر لا بد أن يتأهب له المصريون وهو سيناريو انفجار الإقليم في وجه مصر الثورة. بمعنى أنه رغم الثورات في دول الجوار في ليبيا إلى الغرب واليمن إلى الجنوب الشرقي، ثم سوريا في الشمال الشرقي، فإن هناك دولا قد لا يصيبها فيروس الثورة هذا العام وإنما بعد ثلاث سنوات مثلا ومنها إسرائيل والخليج برمته إن لم يحسن إدارة مجتمعاته بالطريقة العقلانية، فماذا ستفعل مصر التي ستكون بعد عام أو عامين في دور النقاهة كمريض يخرج من سريره لأول مرة، هل سيصيبها الفيروس مرة أخرى وتدخل في انتكاسة أو نكسة؟ ماذا ستفعل مصر إذا عاد إليها ملايين العمال من الخليج في لحظة ثورة أو غضب، هل سترسل وفدا شعبيا إلى إيران كما تفعل بعض القوى غير المسؤولة في مصر اليوم؟ سيناريو انفجار الإقليم برمته وتأثيره على الثورة المصرية لم يتدارسه المصريون ولو للحظة حتى في جلسات من يدعون أنهم أهل علم أو أهل خبرة. المصريون مشغولون بظاهرة كتبت عنها أيام حكم المخلوع وهي ظاهرة «مجتمع الصوت والضوء». رحل مبارك وبقيت الظاهرة.

والصوت والضوء على الطريقة المصرية هو مجرد «شو» أو عرض كاذب مصمم للأجانب السائحين، كي يتعرفوا على تاريخ مصر الفرعوني عن طريق تسليط الأضواء على التماثيل، ويخرج صوت يحكي لهم قصة التمثال، طريقة بدائية جدا لمن يعرف آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا في موضوع الـ«شو بزنس»، ولكن «الشو» في مصر يظنون أن ما يقدمونه هو أبدع ما اخترع الإنسان الحديث لإبهار الغربيين بتكنولوجيا بدائية وقراءة ساذجة للتاريخ. هذا جزء مما كتبته قبل الثورة عن بعض خصائص المجتمع المصري التي ما زالت مستمرة، ولها تأثير كبير في نقل مصر من حالة الصوت والضوء إلى حالة الجد التي تتعامل مع سيناريوهات المستقبل بشيء من النضج.

كتبت منذ عام على صفحات هذه الصحيفة منذ أكثر من ربع قرن، كان هذا الصيف هو أطول فترة قضيتها في مصر، تحركت أسعى بين الناس من النخبة إلى عامة المواطنين في القاهرة وفي أقاصي الصعيد، وما شاهدته كان أطول عرض للصوت والضوء رأيته في حياتي. العرض الكاذب المستمر للصوت والضوء هو جوهر المجتمع المصري الذي يبدو على حافة الانهيار اليوم، ومع ذلك فإن الصوت والضوء «مجموعات الشو بزنس» مستمرون في العرض وقد أقنعوا المجتمع بنجاحه. عرض كاذب يحتاج إلى كثير من العمل والجد كي يكون عرضا مقنعا، دعك من كونه حقيقيا أو غير حقيقي، قابلا للتصديق أو غير قابل للتصديق.

بعد الثورة ما زالت مصر الثورة تقدم عرض الصوت والضوء البديل، فالذين لم يكونوا في العرض أيام مبارك، ظهروا في المشهد الآن، لكن عرض الصوت والضوء مستمر، فقط تغير الواقفون على خشبة المسرح أو تغيرت الأصوات الصادرة من ذات التماثيل المحنطة. ولهذا لا يتناقش المصريون في سيناريوهات جادة لمستقبل بلدهم، هم مشغولون بالعرض المستمر، عرض لأتفه ما في مصر لأن الذين قام بالثورة، عادوا إلى بيوتهم، بعد أن كفنوا شهداءهم، وتركوا العرض لجماعات تخصص في «الشو بزنس»، وفي «التوكتوك شو». لذا قد نغمض أعيننا وتروح ثورة مصر في «شربة مية».