تفاوت فرص الشعوب في «ربيع» 2011

TT

الحركات الشعبية المطالبة بالديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط والشمال الأفريقي، والتي بدأت مع مطلع العام، لها خصوصيات مختلفة عن التسمية الخاطئة تاريخيا بـ«الربيع العربي».

حسب تعريف علمي السياسة والتاريخ رأينا ثورتين فقط لم تكتملا بعد.. الأولى وهي الأكثر اقترابا من بر الأمان والإصلاح المطلوب، هي ثورة الياسمين التونسية.. والثانية، ثورة اللوتس المصرية المهددة بالاختطاف الشمولي.

الانقلاب العسكري على النظام والثورة معا أمر لا يدعو للاطمئنان تاريخيا. ومهما كانت نوايا الجيش بتاريخه الناصع ووطنيته، فهو بطبيعته ليس تيارا ثوريا؛ ولا خبرة له بالسياسة - ولا يريد أحد من ضباطه تكرار كارثة عسكرة السياسة بانقلاب 1952. لكن استمرار الفوضى وخطورة الصراع الطائفي الذي يشعله المتطرفون الأصوليون قد يضطران الجيش للاستمرار في الحكم أطول مما ينبغي، مما قد يؤدي لهروب الاستثمارات وتدمير المؤسسات المدني.

التهديد الأكثر خطورة مصدره التيارات الظلامية التكفير والآيديولوجيا والأهداف، والتي تدفع المحروسة المبحرة وسط أمواج العاصفة في ليلة حالكة الظلام نحو الصخور الحادة بعد قطع التيار عن منارات الاهتداء. ولذا فالاحتمال اليوم أكثر من 50% باستبدال الأمة المصرية الديكتاتورية المباركية بشمولية أشد ظلاما وانغلاقا غير متسامح.

وبينما لا تزال الانتفاضات الأخرى أكثر حياء من اكتساب زخم «الياسمين» و«اللوتس»، فإن الثورة الليبية السلمية تحولت إلى حرب أهلية (والمسؤول الكولونيل معمر القذافي وأبناؤه، فهو كزميله اليمني يفضل تدمير البلاد والموارد وإراقة الدماء على إصلاح يقلل من سلطاته المطلقة). والحركة الإصلاحية الديمقراطية الليبية (ولنفترض ديمقراطية مجلس بنغازي الانتقالي حتى يثبت العكس)، رغم تعرضها لمحاولة الإبادة بطريقة سربنيتسا وسراييفو، أفضل حالا من زميلاتها في اليمن وسوريا.

أكثر من نصف الليبيين محررون من القذافي وفي أمان نسبي بدعم شرعي من المجتمع العالمي (باستثناء مصراتة وجيوب المقاومة البطولية)، يتمتعون برعاية طبية واجتماعية وحرية تعبير واختيار حرموا منها منذ انقلاب «الفاتح» اليوليوي (التموزي) النمط عام 1969.

ثورة الشعب اليمني تطورت إلى حرب أهلية لا يتوقف نزيف دمائها بتشبث الرئيس اليمني بالسلطة بشكل يناقض المنطق الطبيعي لمصلحته الشخصية، مفضلا إغراق السفينة اليمنية على الإمساك بطوق النجاة الخليجي. القبائل التي انحازت للشعب ضد النظام لديها مساحات جغرافية تمكنها من توفير ملجأ آمن نسبيا للشعب إذا تحول اليمن إلى ليبيا أخرى (بلا تدخل دولي وهو ما يطمئن علي عبد الله صالح). ولذا فاليمنيون أفضل حالا من السوريين.

أنظمة الآيديولوجيات الشمولية تاريخيا تتعامل بشراسة بالغة مصدرها آيديولوجية يقدسها النظام كعقيدة دينية (وهو ما يفسر الدعم الآيديولوجي والمادي والأمني القمعي الذي توفره جمهورية آيديولوجية ولاية الفقيه وتابعتها الولاية النصر إلهية المجاورة للنظام السوري).

آيديولوجية من النوع الذي طمأن جوزيف ستالين وأدولف هتلر إلى النوم قريري الأعين على وقع أقدام الآلاف في مسيرة اللاعودة إلى معسكرات الإعدام أو أفران الحرق..

آيديولوجية تعمي العقل عن رؤية الخط الفاصل بين الخير والشر، فيرى فقط الطريق الشمولي المستقيم بلا بداية أو نهاية..

آيديولوجية الاقتناع بأن تعذيب صبي في الثالثة عشرة (قاصر في نظر كل قوانين الدنيا التي لا تسمح له بشراء الشراب أو السجائر أو قيادة السيارة أو التصويت الانتخابي أو الحضور للمدرسة بلا إذن ولي الأمر) حتى الموت بكسر الرقبة، أو بالرصاص، أو بالنزيف من قطع جزء من جسمه، هو واجب وطني وحماية من خطر صهيوني استعماري!..

آيديولوجية تغير التعريفات الطبيعية. ومرة خرج معلق «بعثجي» سوري عن الحوار في الـ«بي بي سي» ليصحح ما وصفه بارتكاب لساني خطأ تاريخيا، رغم صحة التعبير الذي استخدمته لغويا، وقانونيا، وعلميا: «الأمة السورية» (Syrian nation).. نفى المعلق «البعثجي» وجود «أمة سورية»، وإنما «شعب سوري» يسكن قطرا في أمة عربية!!

ولأن رأس النظام الذي تثور الأمة السورية ضده مطالبة بالحقوق الطبيعية كباقي أمم الأرض، هو زعيم حزب البعث الذي يرفض بعناد آيديولوجي الاعتراف بوجود الأمة نفسها، فإنه - وفق المنطق المعوج الذي برر إرسال الملايين للموت بردا في سيبيريا أو حرقا في أفران النازية - يفضل التضحية بأكثرية أبناء هذه الأمة (غير الموجودة بعثيا) في سبيل بقاء رأس النظام الحارس الأمين على هذه الآيديولوجية.

ورغم التضحيات الدموية وتقديم المطالبين بحقوقهم الإنسانية آلاف الشهداء في تونس ومصر وليبيا واليمن، فإن أبطال وبطلات انتفاضة الحرية السورية ربما هم أشد الناس معاناة بين هذه الأمم بسبب الآيديولوجية التي تعمي البصر والعقل والضمير لتبرر اعتقال وتعذيب الأطفال حتى الموت!

هل صدق أي من مقتلعي أظافر حمزة الخطيب الناعمة، أنهم سيحصلون منه على معلومات تبطئ اندفاع عربة «البعث» نحو مزبلة التاريخ؟ لم يكن التعذيب بغرض انتزاع معلومات، وإنما يبدو، بإرسال جثة الطفل الممزقة للأسرة، أن القصد كان إرهاب بقية أسر سوريا ليمنعوا فلذات الأكباد من الخروج في مظاهرات تطلق مقولة 2011 الأشهر التي بدأها شاب على كورنيش الإسكندرية السبت 29 يناير (كانون الثاني) «الشعب يريد إسقاط النظام»، فانتشرت في شوارع المحروسة كالنار في الهشيم، ونسمعها اليوم في شوارع مدن الشرق الأوسط وأفريقيا.

وفي مجال مقارنة حظوظ الشعوب ونصيبها من درجات التنكيل ومقاومة الأنظمة للمطالب المشروعة، وحتى لا نتهم بتجاهل مطالب شعوب في الخليج مثلا (كاتهام الصحافة المؤدلجة للديمقراطيات الغربية بازدواجية المعايير)، فإنني أسوق ملاحظة هي حقيقة تاريخية.

ليس ذلك لمجرد بديهية أن الأنظمة الملكية أفضل وأكثر تأهيلا للإصلاح الأبيض والتطور غير الدموي من الجمهوريات، لأن تركيبتها تسمح بفصل الدولة الثابتة بأجهزتها المستقرة ورأسها كملك أو أمير أو سلطان عن حكومة تنفيذية ستكون منتخبة في هذه الإصلاحات الحتمية من الشعب وتتغير حسب قدرتها على تنفيذ الوعود الانتخابية؛ وإنما لسبب تاريخي آخر.. السبب هو الشرعية الدستورية.

النظم الملكية في الخليج هي نظم مشروعة دستوريا منذ إعلان الاستقلال، بلا استثناء واحد؛ بينما الجمهوريات التي اندلعت فيها ثورات الأشهر الستة الماضية، وحروب أهلية، وقمع دموي بتعذيب الأطفال، كلها أنظمة جاءت بانقلابات عسكرية غير شرعية دستوريا، بلا استثناء واحد.

ولأن الأسر الحاكمة بشرعية دستورية جاهد أعضاؤها للاستقلال، أو خاضوا مقاومة للبقاء (كحال الكويت ضد عبد الكريم قاسم ثم صدام مثلا)، أو سبقوا الحركات الشعبية بالمبادرة بإصلاحات اقتصادية ودستورية متفاوتة الإيقاع، فإنني متفائل بإصلاح دستوري متأنٍ نحو الديمقراطية ورفاهية شعوب الخليج، مع تجنب آلام المخاض الثوري ونزيفه الذي يصعب التكهن بإمكان إيقافه قبل أن يُفقد أجسام الأمم الوعي، أو يجعلها تصاب بالشلل الكامل.