حتى لا يكون ظل المعارضة في البحرين أطول من قامتها

TT

بعد انقضاء فترة السلامة الوطنية (قانون الطوارئ) الذي أعلن في 15 مارس (آذار) الماضي، أعلن ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى في خطاب عام، فتح باب الحوار مع الأطياف السياسية في البلد، من أجل تحقيق إصلاح أشمل دون شروط مسبقة. إلا أن أطرافا من المعارضة يبدو أنها سوف تعود إلى ارتكاب نفس الأخطاء السابقة، في قراءة - في رأيي - خاطئة للساحة، سواء في البحرين أو في المحيط العربي والإقليمي والدولي. البعض يعود من جديد إلى نفس الطروحات حتى في استخدام المفردات السياسية والتكتيكات الشعبية، وهي مفردات وتكتيكات بان خللها، وأدت - فيما أدت إليه - إلى شرخ عميق بين أطياف المجتمع، يحتاج أمرها إلى حكمة ورؤية من الجميع كي تلتئم. لقد أصبح واضحا أن ظروف البحرين السياسية لا تحتمل كلا من تعبئة الشارع، كما لا تحتمل الحلول الأمنية. هي متعطشة إلى أن يقوم الجميع بالبحث عن حلول سياسية من خلال الحوار. وحتى يكون الأمر واضحا، فإن الظل التي تراه المعارضة هو أطول بكثير من قامتها الحقيقية. والظل يزداد أولا بتجاهل الفكرة الخاطئة، أن إبقاء المطالب بشكل عام فئوية، يبعد عنها على الأقل نصف المجتمع عن المشاركة، وهو نصف له وزنه ووجوده في المجتمع، فبدون أخذ تلك الرؤى بعين الاعتبار، والإصرار على النظر إلى المطالب على أنها تخص فئة واحدة من الشعب، هو خطأ استراتيجي، على المعارضة، أو أصحاب الرؤية فيها، أن تعيد النظر فيه، فالطائفية في المجتمعات هي حالة - كما يقرر المطلعون - تنعدم فيها الرؤية، وتغلق نوافذ النقد، وتنهار فيها الكوابح، ويصبح فيها الماضي مسيطرا على الحاضر، ويتحكم فيها العوام، وبالتالي لا تأتي بنتائج إيجابية خاصة في عصرنا الذي نعيش.

وثانيا هذا الظل يزداد ضبابية، بمحاولة مخاطبة نقيضين في آن واحد، الأول هو أميركا تحت طائلة حقوق الإنسان وحرية الرأي وحق المشاركة، وهي شعارات تميل إلى تعضيدها الإدارة الحالية للولايات المتحدة، انسجاما مع رؤيتها للإقليم ككل، وفي الوقت نفسه مغازلة النقيض الآخر، إيران السياسية، التي تريد أن تظهر بأنها المدافعة عن المطالب الفئوية في البحرين، عن طريق ضخ رسائل إعلامية متحيزة، وعن طريق المعارض المقامة في طهران وأماكن أخرى تأييدا لتغيير النظام، كما نقلت وكالة «أهل البيت» الإيرانية مؤخرا. وهي معارض وشعارات أقل ما يقال فيه أنها مستفزة، تحمل صورا وعبارات تذكرنا بما كان يفعله صدام حسين عندما وضع صورة جورج بوش الأب على ارضية بوابة أحد فنادق بغداد، كي يدوسها الرائح والغادي.

مغازلة الطرفين في الوقت نفسه تظهر ضعفا حقيقيا في الخطاب المعارض، فهو إما باتجاه إقامة مجتمع مدني حديث تتساوى فيه الحقوق والواجبات من خلال اصطفاف وطني يتجاوز الفئوية، وهذا قد يغرى أطرافا أخرى محلية ودولية للسير في ركابه، أم الحديث عن إقامة دولة تابعة لولاية الفقيه، وهي بالتأكيد ما ينفر منه ليس المجتمع الدولي فقط، ولكن شرائح واسعة من المجتمع المحلي والإقليمي والعربي. هذا التناقض ينم عن عجز فكري وسياسي، يقصر عن بناء فضاء فكري وسياسي يقبل التعددية. من هنا، فإن الأحادية المستولية كليا على خطاب المعارضة السياسي، إذا حسب البعض أنها تجلب الأنصار، فهي بالتأكيد تزيد من المناوئين.

لعل الظل واجب أن يتقلص من زاوية أخرى، وهي العلاقة بإيران، وأنا هنا أقصد العلاقة السياسية وليس العقيدية. فحسب تجربة عدد من الجماعات الشيعية العربية، على رأسها بالطبع شيعة العراق وأيضا شيعة السعودية، استهوتهم في البداية الشعارات البراقة التي أشاعتها الثورة الإيرانية، فكان أن لجأ بعضهم إليها طلبا للنصرة. هذا اللجوء تبين في نهاية المطاف أنه قيد ثقيل على تلك الجماعات، سواء العراقية أو غيرها، سرعان ما تخلصت منه بالذهاب إلى أماكن أخرى، وفي النهاية لم تجد مكانا أفضل من أحضان أوطانها الدافئة وإن كانت مختلفة معها. لقد نظر الإيرانيون إلى هذه الجماعات المعارضة ليس كمواطنين يرغبون في تطوير أوضاعهم الوطنية، ولكن - مع الأسف - كطابور خامس، لتحقيق مصالح الدولة الإيرانية، فكان معظم الاتصال بهم من خلال المخابرات أو فروعها. ومن لم يقبل بذلك تم تهميشه إلى حد تطفيشه. تجربة مثل تلك وجب أن ينظر إليها بعض أطراف المعارضة في البحرين نظرة دقيقة ومتأنية، بحساب ما يمكن أن يتحقق في داخل الوطن من صالح، ما يدفع خارجه من أثمان.

المعارضة في البحرين أول ما تحتاجه هو التوقف عن صنع الأعداء. وأول صناعة الأعداء الادعاء بأنها تمثل جميع الشيعة قاطبة، وأنهم جميعا يرنون إلى ولاية فقيه جديدة، فشيعة الخليج هم عرب في أول وآخر المطاف وإن كانت تنقصهم حقوق، فهم ليسوا الوحيدين في ذلك. مثل هذه التوجه نحو إيران، وإن وجد بعض المؤيدين إلا أن الكثرة علنا أو سرا لا يتفقون معه. كما أن العمل خارج النطاق الوطني يقلل من صدقية المعارضة، ويفقدها الاصطفاف الوطني الواسع. ليس صحيحا القراءة القائلة إن ما حدث في بلاد عربية أخرى قد يحدث في البحرين، فهناك عدد من عناصر الاختلاف إن تجاوزته المعارضة، فإنها تقع في الخطأ مرة أخرى. فالحكم في البحرين له جذور اجتماعية أعمق وأكثر رسوخا من مجتمعات وجدت نفسها تغير النظام بعد اندلاع الاحتجاجات في فبراير (شباط) الماضي في تونس ومصر وغيرها، الحال مختلفة لمن له بصيرة.

من جانب آخر، هناك توجس وتوتر وتشاؤم بين عموم الخليج وبين إيران، بسبب طموحات بعضها في الجوار، كما أن الخريطة التحالفية والأمنية التي تتبعها طهران أو بعض القوى فيها خريطة إلحاقية، ترمي إلى تطوير مصالحها أو صرف النظر عن المشكلات الداخلية، وهي ليست قليلة، باختلاق أهداف في الجوار. بجانب أن (النموذج السياسي) الإيراني ليس نموذجا يستهوي قطاعا واسعا ليس من السنة فقط ولكن من الشيعة أيضا، ولنا في العراق مثال يحتذى، فعلى الرغم من تسيد إيران السياسي بعدد من الأدوات في العراق من خلال أحزاب ومؤسسات وقيادات، فإن النموذج لا يمكن أن يستنسخ، بل هو يفقد زخمه في الشارع الإيراني نفسه، إن كان ذلك صحيحا في العراق فهو أكثر صحة في البحرين.

بتحويل الخلاف المذهبي المعترف به بين السنة والشيعة، وهو خلاف في الفروع ويمكن ببساطة التعايش معه، إلى خلاف سياسي محتدم يخدم في النهاية أهدافا سياسية إيرانية، والتي تعاني من ضغوط اقتصادية وتشرذم سياسي، وبطالة عالية، ليس من العقل استيراد النموذج المتعثر، ولا من السهل بيعه على العقلاء.

البديل الحضاري هو الدخول في حوار سياسي منظم يحقق الأهداف التي أعلنها ملك البحرين في خطابه الأخير، وهذا الدخول يتطلب التنسيق مع الجناح الآخر وبقية الأطياف السياسية لبناء اصطفاف سياسي وطني، دون ادعاء أو احتكار من أحد أو تسلط، من أجل تحقيق الأهداف المعلنة من قبل النظام نفسه، وهي الوصول إلى وطن تعددي متعايش وحضاري تحكمه المؤسسات. خلاف ذلك هو الاستمرار في النظر إلى الظل على أنه القامة الحقيقية، وهو ليس كذلك. فهل يطل على جزر البحرين شروق صبح جديد! الحكمة ضالة المؤمن.

آخر الكلام:

نقل عمرو أديب في برنامج «القاهرة اليوم»، مساء الأربعاء الماضي، خبرا عن استعداد طهران (مشاركة مصر في كل نتائج التجربة الإيرانية في الثلاثين سنة الماضية، دون قيد أو شرط) الله يستر، أي نوع من التجارب هي التي سوف تصدّر!!