ماذا قبل إعلان الدولة الفلسطينية.. وماذا بعده؟

TT

لم يكن نتنياهو بحاجة إلى هذه التمثيلية التي قام بها في البيت الأبيض وأمام الكونغرس الأميركي ومؤتمر «ايباك»، كي يعطل الانفتاح الأميركي الجديد على العالم العربي. كان يكفيه الاستمرار في بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، لكي يمتنع الفلسطينيون عن الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ويحقق غايته في تعطيل عملية السلام.. غير أنه آثر القيام بهذا الاستعراض الرخيص للعضلات، أمام الرئيس الأميركي وأعضاء الكونغرس الذين صفقوا له 26 مرة وهو ينتفخ غرورا.

إن الدعم السياسي الأميركي للحكومة الإسرائيلية ليس جديدا، والنفوذ الإسرائيلي في الإدارة الأميركية ووسائل الإعلام أمر معروف، أما الجديد والمستغرب فهو استمرار هذا الدعم شبه الأعمى مع إدارة الرئيس أوباما، وفي الوقت الذي يلاقي قيام الدولة الفلسطينية تأييدا عالميا، وتلاقي فيه السياسة الإسرائيلية شجبا دوليا واسعا. والمستغرب أيضا هو أن تصفق واشنطن والعواصم الغربية للربيع العربي، وتعد بالمساعدات الاقتصادية، في الوقت الذي تعرف فيه جيدا، ويعرف العالم، أن الاستقرار والسلام ومقاومة الإرهاب في العالم الإسلامي إنما يبدأ بتحقيق السلام بين إسرائيل والعرب، وليس بالتصفيق للديمقراطية في الشرق الأوسط.

ومن البديهي، بعد هذا الاستعراض الإسرائيلي للقوة في واشنطن ونيويورك، أن يفكر الرئيس أوباما مرتين قبل أن يقوم بمبادرة سلام جديدة في الشرق الأوسط، أو أن يضغط على نتنياهو، لا سيما وهو مقبل على سنة انتخابية. أما نصيحته للسلطة الفلسطينية بأن لا تذهب إلى مجلس الأمن أو الأمم المتحدة (مع أنه في خطاب آخر اعترف مبدئيا بالدولة الفلسطينية في حدود 1967)، إنما تعني أحد أمرين: إما أنه يناقض نفسه، وهو يدرك ذلك، بسبب مصلحته الانتخابية. وإما أنه - وهنا الطامة الكبرى - يعتقد أن لغة النصح والتلميح تنفع مع المسؤولين الإسرائيليين، ولا سيما اليمينيين المتطرفين الحاكمين، اليوم.

إن الدولة الفلسطينية سوف تعلن وتتكرس دوليا في نهاية هذا الصيف عندما ستؤيد أكثرية أعضاء الأمم المتحدة طلب انضمامها إلى الأسرة الدولية. والسؤالان المطروحان هما: ما الذي يستطيع نتنياهو القيام به ليحول دون إعلانها، أو ليعطل مفعول إعلانها؟ وماذا بإمكان السلطة الفلسطينية والدول العربية أن تفعل ليتحقق هذا الاعتراف، رغم معارضة إسرائيل، ولكي تتحول الدولة المعلنة إلى دولة مستقلة فعلا ومتحررة من الاحتلال الإسرائيلي؟

نتنياهو في خُطبه الأميركية وتصريحاته الأخيرة قد أغلق كل الأبواب والنوافذ في وجه الفلسطينيين، وأمام استئناف مفاوضات السلام. ولكننا لا نرى ماذا يستطيع أن يفعل في الضفة الغربية أكثر مما فعل ومما هو فاعل. إنما سنرى مزيدا من التعاطف الدولي مع الحقوق الفلسطينية، ومزيدا من العزلة الدولية لإسرائيل. وكثيرون هم الذين يعتقدون أنه إذا كتب الفوز للرئيس أوباما بولاية ثانية، فإن موقفه من التعنت الإسرائيلي قد يتغير.

لسوء الحظ، تتلازم المرحلة التي تمر فيها القضية الفلسطينية والسلام بين العرب وإسرائيل، مع هذه التحولات الكبرى في أنظمة أكثر من دولة عربية. وهو أمر قد يسهل أو قد يعقد الوصول إلى حل لها قبل استقرار الأوضاع في العالم العربي. لا سيما وأن جبهة الممانعة (إيران - سوريا وامتداداتهما) لن تتوقف عن محاولة تعطيل أي مشروع للسلام تقترحه الدول الكبرى أو المجتمع الدولي. ولكن من حسن الحظ، من جهة أخرى، أن الدول الكبرى، رغم تحفظات بعضها، متفقة على ضرورة إحلال السلام في الشرق الأوسط.

مر ة أخرى نقول إنه لا يجوز أن تتقاذف مصير الفلسطينيين أيد أميركية وإسرائيلية ودولية أخرى، بل إن على الفلسطينيين والعرب أن يكونوا جاهزين أمام الاستحقاقات القادمة، وأن يحاولوا التأثير بشكل أو بآخر على مجرى الأحداث. فالمصالحة بين الفلسطينيين يجب أن تتعمق ويتوحد الخطاب الوطني والدولي الفلسطيني، فعلا لا قولا. أما الدول العربية التي تمر بهذه المرحلة «الربيعية» الانتقالية فقد يكون من الصعب عليها توحيد كلمتها ومواقفها، اليوم، ولكنها قادرة، على الأقل، على الاتفاق على نقطتين، وهما: تدعيم وحدة الصف الفلسطيني، وتشديد موقفها أو علاقاتها بإسرائيل. فهذه الأخيرة يجب أن تشعر بضغط عربي حقيقي عليها، في هذه المرحلة القادمة.. ولقد أحسن وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير باتخاذهم قرار تجميد المبادرة العربية. كما أحسنت مصر في فتح معبر رفح، وإن كان المطلوب خطوات أخرى وأقوى تأثيرا على إسرائيل.

على الرغم من «نصائح» واشنطن وتل أبيب المعاكسة، فإن المجال الوحيد لتقدم القضية الفلسطينية، وبالتالي السلام في الشرق الأوسط، بات في إعلان الدولة واعتراف المجتمع الدولي بها. ولا شيء اليوم يتقدم على ذلك، بل كل شيء يجب أن يبذل من أجله. لقد دأبت إسرائيل، منذ نشأتها، على وضع العرب والعالم أمام الأمر الواقع. ولقد آن الوقت لكي يتبع الفلسطينيون والعرب سياسة الأمر الواقع نفسها. فإسرائيل اليوم أضعف مما كانت عليه عام 1967. والقضية الفلسطينية لم تكن يوما متمتعة بالعطف الدولي كما هي اليوم. وصورة العرب في أذهان العالم لم تكن يوما أفضل إشراقا مما هي عليه الآن. وإنها لفرصة يجب أن لا تضيع، مهما نفخ نتنياهو عضلاته، ومهما تردد الرئيس أوباما في الإقدام على ما ينتظر العالم منه أن يقدم عليه. أي وضع حد للدلع والتبجح الإسرائيليين.