وما الدنيا إلا مطعم كبير

TT

في أحيان كثيرة، أشعر أنني أجلس في مطعم كبير بين حشد من الزبائن فقدوا أعصابهم بعد أن طال انتظارهم لخروج الأطباق التي طلبوها من المطبخ، أراقب الوجوه المشدودة المتوترة وكلمات التذمر الساخطة التي تتصاعد في المكان وقد بدأ يستولي علي الإحساس بأن شيئا كريها على وشك الحدوث، أتعرف على وجوه عديدة، فنانون وكتاب وأدباء وإعلاميون ورجال سياسة من كل الاتجاهات، أمر طيب أن ينسوا جميعا خلافاتهم مع بعضهم البعض ويجلسوا في مطعم واحد، غير أني أتنبه إلى أن الطريقة التي يمسكون بها السكاكين والشوك غير مألوفة وتوحي بالخطر، وهو ما حدث فعلا.. بدأوا يأكلون بعضهم البعض، الغريب في الأمر أنه لم تصدر عن أي منهم آهة ألم، كانوا يلتهمون بعضهم البعض في استمتاع شديد، أشعر بالخوف ولكن علي أن أحتفظ بهدوئي، أشير إلى الجرسون طالبا الحساب على الرغم من أنني لم أتناول شيئا، منذ زمن طويل وأنا أدفع ثمن أشياء لم أحصل عليها، أدفع وأخرج في هدوء إلى الشارع.

البشر بوجه عام يستمتعون بأحلام اليقظة بينما أنا لا أعرف إلا كوابيس اليقظة، في المساء وفي أحد البرامج، شاهدت صحافيا ورجل سياسة يأكلان بعضهما البعض في تلذذ واضح، كان المذيع يرش عليهما الملح والفلفل والشطة والكاتشب ويقرّب منهما أطباق المخلل لكي تعمل شهية كل منهما على نحو فعّال.

أفكر في الحكم وآليات انتقال السلطة على نحو سلمي، وأتساءل ماذا كان عليه الأمر في الماضي البعيد، وبالبعيد هنا أقصد منذ آلاف السنين، أو في تلك العصور التي تسمى ما قبل التاريخ (Pre historic) وهي عصور بالمناسبة ليست بعيدة عنا بل ربما كنا ما زلنا نحياها، إن صورة الطفل السوري حمزة الخطيب المعروضة على الشاشات الصغيرة تؤكد لي أن عددا غير قليل من البشر في منطقتنا ما زالوا يعيشون مرحلة من الوحشية من المؤكد أن الوحوش نفسها لم تعرفها من قبل، والله لو أن لي ألف حياة بألف حكم لتخليت عنها جميع في مقابل ألا يحدث له ما حدث.

حدثتك من قبل عن أن كل ما هو بدائي في عقل الإنسان لا يندثر بفعل التطور والارتقاء ومظاهر الحضارة، كل أنواع السلوك الوحشية التي مارسها أجدادنا في ما قبل التاريخ المكتوب أو المحكي راقدة في مكان ما في أعماق لا وعي الإنسان تنتظر فرصة الظهور وتفعيل نشاطها في اللحظة التي تنهار فيها قشرة الحضارة، عندها تسمع عن حاكم أعطى لجنوده الأوامر باغتصاب نساء بلده وهو ما أثبتت حدوثه جماعات حقوق الإنسان في ليبيا، هل ما زلت ترى الغابة بعيدة عنا؟

تعال معي في رحلة إلى الغابة، سننزل ضيوفا على إحدى القبائل ربما كانت من آكلي لحوم البشر غير أنها أعطتنا الأمان بعد أن أثبتنا لها أننا نزورها لأسباب علمية وهو التعرف على طريقة تبادل السلطة عندها، شيخ القبيلة هو الحاكم وهو أب لعشرات الشبان أنجبهم من عدد كبير من النساء، هو شخص عجوز ولكنه يتمتع بصحة جيدة، غير أنه رقد في الفراش بعد يومين من زيارتنا، كشف عليه ساحر القبيلة وهو طبيبها أيضا وأشار للمجتمعين حوله إشارات معينة فهم منها الجميع أن الرجل الذي يحكمهم يعيش لحظاته الأخيرة. وهنا بدأت إجراءات تسلم السلطة، تجمع أبناؤه وقتلوه ثم أكلوه ثم عقدوا اجتماعا اختاروا فيه واحدا منهم ليحكمهم، قبل أن تقول يا للوحشية ،أقول لك إن الهدف من أكله كان نبيلا وهو أن تتحول عضلاته إلى نسيج في عضلاتهم وأن تضاف الحكمة الموجودة في رأسه إلى أدمغتهم. وعلى كل حال الخسائر هنا أقل بكثير جدا من خسارة الشعب اليمني هذه الأيام. هذا هو ما يحكيه علماء الأجناس، أما أنا فمهتم على نحو خاص بأمر آخر وهو المأدبة نفسها، أقصد انفعالات الأبناء وهم يأكلون والدهم–تسمى في التحليل النفسي مرحلة التهام الأب–وهي للأسف ضرورية في حياة البشر، إذ إنه من المستحيل أن ينضج الإنسان بغير أن «يخلع» من السلطة الوالدية، أي يتمكن من الاعتماد على نفسه وشق طريقه في الحياة بغير معونة الأسرة.

لم يتكلم العلماء عن انفعالات الأبناء عند التهامهم للأب الحاكم، غير أنه من السهل جدا على كتاب الدراما أن يكتشفوا أنها كانت لحظات ممتعة للغاية، إنها أكلة تحدث مرة واحدة في العمر في مناسبة تستحق أن نسميها تاريخية، ما أريد أن أصل إليه هو أن هذه اللحظات الممتعة التي كانت جزءا من العقل البدائي يوما ما، ثم تم قمعها في اللاوعي، ما زالت موجودة تبحث عن لحظات تشبع نفسها فيها، وربما تكون هي الأصل في الرغبات السادية التي يستمتع فيها الإنسان بتعذيب الآخرين، والأصل أيضا في انفعالات الانتقام والتشفي.

لنترك الغابة ونعد إلى القاهرة، كلمات كثيرة ومقالات بأكملها تتحدث بغضب عن أتباع النظام السابق المسجونين وتتهم الحكومة أنها وفرت لهم داخل سجن طرة فنادق خمس نجوم، وبعض المتحدثين في برامج التلفزيون يصيحون في غضب: دول قاعدين في الجنة.. وبعدين مش بنشوفهم في القفص ليه؟

هؤلاء أناس فقدوا حريتهم ولا أعتقد أن هناك عقابا على الأرض أكبر من ذلك ومع ذلك نجد من يغضب لمجرد فكرة أنهم يستمتعون بالراحة في محبسهم، ويصل الأمر إلى تشكيل لجنة تكلف بزيارة السجن لكي تؤكد للجماهير بأنهم يعيشون ظروفا صعبة. أي إن اللجنة كانت مكلفة بالتأكد من أنهم ليسوا مسجونين فقط، بل مسجونون جدا. مرة أخرى نجد أنفسنا وجها لوجه أمام انفعالات التهام الأب الحاكم.

أما الرئيس السابق محمد حسني مبارك فلا شك أن عددا كبيرا من البشر يشعرون باستياء كبير من العجز عن التهامه حيا أو على الأقل ما تبقى منه، على الأقل كانوا يريدون أن يكحلوا عيونهم برؤيته في سجن طرة.

تعليقا على مقالي السابق عن موقف الشبان من العجائز أمثالي، كتب أحد قرائي يقول إنني «ربما أكون من رجالات النظام السابق» لا يا بني.. لا السابق ولا الحالي.. أنا فنان من رجالات العهد القادم بعد ألف عام. وقبل أن تفهم أنني كنت بطلا مناضلا أرفض الانضمام إلى صفوف النظام السابق أقول لك، النظام السابق لم يكن في حاجة أو مهتما بتجنيد أو ضم أمثالي، إنها مسألة تتعلق بخفة الدم وثقله وليس بالسياسة.. دمي كان ثقيلا عليهم جميعا.. وللمزيد من توضيح موقفي أقول لك، أنا أكره أن تلتهم الناس بعضها البعض، ليس بسبب البعد الأخلاقي أو الحضاري، بل لأنه أمر معطّل للغاية لمسيرة المجتمعات.