تنجح الثورة عندما تغير النسق الثاني

TT

أي ثورة في العالم الثالث لا تنجح بتغيير القيادة، ولكن تنجح الثورة لو استطاعت تغيير النسق الثاني للحكم، وبـ«النسق الثاني» أعني درجتين أو ثلاثا أو ربما أربعا بعد رأس الدولة، أي من رتبة مدير عام إلى نائب وزير، ومن عمدة قرية إلى رؤساء المجالس المحلية، لأن هذا النسق هو العمود الفقري لأي نظام، وهو ذات النسق الذي جعل ثورة يوليو (تموز) 1952 تبدو كما المطعم الدوار على برج القاهرة الذي لف أو دار دورة واحدة وتوقف إلى الأبد.

أي إن الثورة في يوليو غيرت قشرة النظام الملكي وبقيت مصر بتشبيه آخر تبرق كما الطلاء الفضي الموجود على قبة جامع محمد علي في القلعة، أما ما تحت البريق فهو ذات الأحجار الجرانيتية القديمة التي لا تهترئ مع الزمن، وهكذا هو نظام القادة المحليين في مصر من عمد ومشايخ وأعضاء مجالس شعبية ومحلية، لا يتغير بتغير النظام، ومعه لا تتغير المنظومة الأخلاقية الحاكمة للمجتمع.

والثورة لا تكون ثورة إلا إذا أحدثت تغييرا في القيم الحاكمة للمجتمع، ما عدا ذلك تصبح انقلابا من فوق، لا ثورة، وهذا ما حدث لـ«يوليو»، بدأت كثورة، ثم أصبحت انقلابا، لأنها فشلت في تغيير النسق الثاني رغم محاولاتها الجادة في تغيير قوانين الإصلاح الزراعي، ومحاكمات كمشيش.. إلخ، إلخ. فهل تسقط ثورة يناير (كانون الثاني) في نفس الحفرة التي سقطت فيها ثورة يوليو، أو انقلاب يوليو؟ هذا يعتمد على الموجة الثانية للثورة التي تمثلت في «جمعة الغضب الثانية»، ومدى استجابة المجلس العسكري شبه الحاكم في مصر لطلباتها.

فدونما موجة ثانية كـ«جمعة الغضب الثانية»، ودونما ثورة على سيطرة منظمتي الشباب والتنظيم السري لـ«الإخوان» اللتين كتبت عنهما تحت عنوان «مصر: قصة منظمتين»، دونما الفكاك من سيطرة المنظمتين على مقدرات مصر، ستكون ثورة الشعب المصري في 25 يناير 2011 «زي قلتها»، وذلك لأن النظام ما زال قائما، النظام «لابد في الدرة» كما نقول بالعامية المصرية، أي إن بقاياه ما زالت موجودة ولها الدور الأساسي في تشكيل المستقبل من خلال وزارة تسيير الأعمال التي كلها من النظام القديم ولها تأثير كبير على الجيش في قراراته، هذا إضافة إلى ما تبقى من النظام من رجال أعمال ومنتفعين من النظام القديم الذين لهم دور كبير في محاولة الالتفاف على إنجازات الشعب ومحاولاتهم المستمرة لتفريغ الثورة من مضمونها، وهذا ليس جديدا على مصر.

ففي يوليو 1952 استطاع النسق الثاني من المنتفعين من النظام الملكي أن يبقوا في أماكنهم، وسيطر أبناؤهم على الوزارات المهمة، وزارة الخارجية خصوصا، وبدت ثورة يوليو أشبه بذلك المطعم الدوار على برج القاهرة الذي لفّ لفة واحدة وتوقف إلى الأبد.ثورة يوليو لفت نصف لفة، ولم تغير إلا القشرة في الواقع المصري، إذ ظل أبناء الباشوات والبكاوات القدامى هم عصب نظام يوليو، وجاء معظم أبناء منظمة الشباب والطليعة من هذا النسق الثاني الذين مثلوا تلك المنظمة الفاشية التي حكمت مصر خلال الخمسين عاما الفائتة.

هذا النسق ما زال موجودا بعد ثورة 25 يناير، بل إن الوزارة الحالية برمتها ما زالت من ذات الوجوه التي «قرفت» الشعب المصري لسنين عدة، وجوه لم تأت بالكفاءة ولكنها أتت بنظام المكافأة، وكنت أتمنى أن يزيح الجيش هذه الوجوه حتى لو كان اسم الحكومة «حكومة تسيير أعمال»، فأي واحد من الشارع يستطيع أن يسير أعمال الوزارة أحسن مائة مرة من بعض هذه الأسماء المحسوبة على النظام السابق.

عيب أن يذلنا الجيش المصري العظيم ببقاء مثل هذه الوجوه، ولستة أشهر أخرى. عيب جدا، بل مقزز أيضا، أن تكون كل وزارة شرف إما من التنظيم الطليعي وإما من منظمة الشباب التي بدأها عبد الناصر، وإما من لجنة السياسات التي أسسها «ولي العهد» الأستاذ جمال مبارك!

الثورة في مصر لن تحقق مكتسباتها إلا بدستور جديد، وبرلمان جديد، وبنظام برلماني لا رئاسي، وبهذا الترتيب، ولكن هذا لن يحدث، لأن ما يحدث في مصر تنقصه الجدية في التغيير. كل ما تتجه إليه مصر الآن هو تغيير حرس قديم بحرس أقدم منه، إنها سياسة الثأر، فمن كان ضد مبارك هو حبيب الثورة، ولا غرو أن يكون أكثر فاشية من مبارك. دونما القضاء على النسق الثاني الحاكم الفعلي في مصر، لن تنجح الثورة المصرية، وذلك لأن من يتحكم في مصير مصر اليوم ليسوا بقايا مبارك فقط، بل بقايا مبارك وبقايا عبد الناصر، وتلك خلطة قاتلة يمكن أن تنفجر في أي لحظة مثل حزمة من أصابع الديناميت!