الكشف عن (البراقع)

TT

رغم استمتاعي بقراءة كتب الرحلات، فإنها تظل على الدوام قراءة نقدية، وسوف أستعرض في هذه العجالة ما كتبه الرحالة التركي (الحافظ أوليا جلبي محمد ظلي) عندما حج في عام 1671 ميلادية، وصادف وصوله عزل أمير مكة الظالم وعُين بدلا منه أمير جديد، ويقول في مشاهدته:

«عمت الفرحة أرجاء المدينة، وتسابق السكان في تزيينها وتنظيف شوارعها، وتجميل حوانيتها، وفتحوا أبواب منازلهم للتزاور، وتبادل التهاني وعلقت القناديل والثريات حتى تشعشعت المدينة بالأضواء المتلألئة، وكان أمام بعض الدكاكين مطربون ومقرئون ومضحكون وفتيات عفيفات بأصواتهن الملائكية يتغنون بالموال الحزين، أو بالقصائد الغزلية، وترقص الراقصات والراقصون، وينثرون ماء الورد والعطور على الحجاج».

ثم وصف بعض عادات سكان مكة، وابتعادهم عن تناول الطعام الدسم، بسبب حرارة الجو، ويقول في هذا الصدد: «فهم أقوياء حتى وإن بدت عليهم النحافة، ولا نرى أطباء بمكة، ولو جاءها طبيب فإنه لا يبقى لقلة المراجعين له، ولو شعر إنسان داخل مكة بوعكة، فما عليه إلا أن يتوجه فورا إلى داخل المسجد الحرام، وما إن يرى الكعبة حتى يزول ما به، وبسبب الحر يصوم أهلها عن الجماع ستة أشهر».

ويستطرد: «والملاحظ أن أهل مكة غير مشغولين بطلب العلم، فجملتهم تجار، وهم مغرمون بالنساء، ومغلوبون لنسائهم اللاتي يصدرن الأوامر على أزواجهن، ولما كان الرجال مغلوبين على أمرهم، فإن النساء لا يطبخن في بيوتهن، ولا يستطعن تنظيف الملابس، ولا الخياطة، ولا الكنيس، ويؤمّن الرجال احتياجات منازلهم من الأسواق».

ويصف نساء مكة قائلا: «إنهن يتمتعن بجمال ولطافة، وخفة روح، مما يجعلهن كحوريات الجنة، طاهرات، عفيفات، يتدثرن بالملابس الحريرية طاقما فوق طاقم، مغرمات بالحلي والجواهر، على رؤوسهن طواقي من الذهب الخالص أو الفضة النقية وعلى وجوههن البراقع، يصبغن شفاههن بألوان متناسقة مع ألوان ملابسهن».

ولا شك أن لديّ شكوكا كبيرة فيما ذكره، خصوصا ما يتعلق بالرقص والغناء، ولكن دعونا نواصل معه في رحلته عندما ترك مكة متجها إلى جدة وفيها يقول: «أركبنا أربعة من الغلمان على البغال الهجين التي أهداها إليّ شريف مكة، وخرجنا من مكة، ولم نسترح إلا في مسجد الشيخ محمود ذي القبة الواحدة، وواصلنا متوقفين في استراحات الطريق، وجميعها يوجد فيها مطربات، وغوازي من الفتيات الحبشيات».

والآن أتوقف لكي أكشف لكم مدى (تخريفه) وذلك عندما يتحدث ويصف ماء (زمزم) ويقول عنه:

«إنه لا تساويه مياه الدنيا في لذته، ومن يحتسيه فكأن رأسه شحن بالمسك والعنبر، وفي الصباح تشم منه رائحة الورد، ومن الظهيرة إلى العصر تسوده رائحة البنفسج، وحتى وقت الغروب تشم منه رائحة الياسمين، وحتى العشاء تتصاعد منه رائحة الهندباء، وهو مفيد لذوي الطبائع البلغمية، ومعتدل للإنسان الصفراوي».

ورغم أن طبائعي ليست بلغمية، كما أنني بالتأكيد لست بصفراوي، ولكنني مع ذلك لا أوافقه على كلامه، لأنني من كثرة ما شربت من ماء زمزم مرات ومرات، إلا أنني لم أشم فيه أية رائحة عطرية ولا (هندبائية).

غير أنني أختم مقالي بهذا السؤال للرحالة الجهبذ الذي ما زال يقبع في قبره تحت قبة كبيرة على أساس أنه من أولياء الله الصالحين وأقول: كيف عرفت يا مولانا أن نساء مكة يصبغن شفاههن بألوان متناسقة مع ألوان ملابسهن وهن يرتدين البراقع؟!

فهل قدر لك يوما أن تكشف بعضا من هذه البراقع؟!، إذا كان هذا قد حصل فعلا فيا بختك، إنني أحسدك، ويا ليتني كنت أنت.

[email protected]